أحمد المديني
لن يتعبك أمين معلوف لتصل إلى بُغيته. فهو يقدم إليك بإهاب الشيخ، وبيداغوجية المعلم، ما تسعى للبحث عنه في كتابته. قد تظنه بعيد المنال، وهو طوع بنانك، لأنه هكذا اختار، ومنذ "صخرة طانيوس" (رواية جائزة الغونكور- 1993) أن يكون لاعباً بالسرد، وذا بصيرة في الحياة ونظرٍ ثاقبٍ للتاريخ، يُحدّثك عن الإنسان عبر رسم مسار، ودائماً في أفق بحثٍ إنساني.
تواصل هذا البحث في عديد من أعماله اللاحقة، نكتفي بأشهرها "الهويات القاتلة" (1998)، واليوم يجدّد البحث في سياق حضور روائي نشيط من قبل من أضحى راسخ القدم من أكاديميي اللغة الفرنسية وآدابها، باعتباره عضواً في مجمع الخالدين.
في روايته الجديدة Nos frères inattendus (دار غراسيه)، التي نخصص لها هذه الورقة، بادئين أولاً بترجمة مؤقتة للعنوان "إخوة لم نتوقع مجيئهم"، لأنّ الصفة في العنوان لا يستقرّ معناها ذاهبة إلى الدخيل والطارئ. ولأنّ الكاتب أراد أن يختصر عنوانه لرواية من 329 صفحة في أربعة فصول أسماها دفاتر. يطوي العنوان، أيضاً، المفارقة التي تؤشّر من البداية على معضلة القصة، كيف يكون الأخ أخاً ولا نتوقعه، أو نفاجأ بصنيعه ويظهر غريباً عنا، أم أنها أخوة بمعنى مجازي لا سلالي؟
ذاك ما سيسرده البطل، الشخصية الرئيسة ألكسندر، أو Alec Zander في حكايته (fable)، لأنها ليست رواية بالمعنى الأجناسي، معتمدةً المزج بين الواقعي واللاواقعي (لا أسميه الخرافي أو الأسطوري، بما أنهما غلالتان تنتميان لماضٍ قبل حداثي، لم يظهر فيه الخيال العلمي)، ولأن دلالتها قائمة على رؤية تبشيرية وإصلاحية إنسانوية عقَائدية (messianique).
حياة الوحدة
نختصر الحكاية بأقرب قدر من الإيجاز في الآتي: يرث أليك زندر كندي الجنسية عن أبيه القسم الأكبر من جزيرةٍ كان يتمنى الاستقرار فيها على ساحل المحيط الهادي الأميركي. وبعد أن أكمل الابن دراسته في القانون، غيّر مجرى حياته وانتقل ليقيم في الجزيرة المسماة (أنطاكية)، حيث تفرّغ للرسم وراح يبيع رسوماته إلى منابر إعلامية، والمهم أنه يعيش حياة الوحدة التي يحب بعيدا عن ضجيج العالم والبشرية. إلى يوم تشترك معه في سكنى الجزيرة سيدة تدعى إيفا، سبق أن أصدرت رواية ذاع صيتها بعنوان "المستقبل لا يسكن هذا العنوان"، والطريف أن معلوف يستعير عنوانه من تأليف حقيقي.
جاءت ايفا إلى الجزيرة التي بقي فيها جزء صغير اشتراه والدها الطيار ومات، فانتقلت إليها بدورها لتحقق أمنيته ولكي تعيش في عزلة بعدما خاب أملها من الحياة والناس، وانقطعت عجزاً عن الكتابة، منصرفةً إلى الوحدة وإدمان الكحول. ثم يقع حادث يجمع بين الشخصيتين إثر انقطاع التيار الكهربائي والبثّ على الأثير في الجزيرة المفصولة عن اليابسة، مما يُحدث انقلاباً في معيش السكان، ابتداءً من هذه البقعة الصغيرة وإلى أنحاء العالم كافة.
تتناسل الأخبار والإشاعات عن إشعاعات وانفجارات نووية، حتى إنّ رئيس الولايات المتحدة الأميركية (شخصية في الرواية) يُضطرّ لإلقاء خطاب بغية طمأنة الأمة والإشارة إلى وجود قوة خارجية وأن ستعود السيطرة. بعد عودة البث والتيار، من جهة، وربط الصلة بين الرسام والكاتبة، ستنتقل الجهة الخارجية الغامضة إلى قلب الحبكة من خلال شخصيتين:
الأول هو "أغاممنون"، آدمي يعيش في نقطة من اليابسة مكلف بضمان العبور منها وإلى الجزيرة؛ والثاني "دموستين" سيقتحم البيت الأبيض خفية ويعلن أنه رسول القوم الوافدين على الأرض وقواه العظمى، مهمتهم وقف مشاريع الدمار التي يهيئها بعضهم الى بعض، ممثلة في زعيم قوقازي هو سرداروف، يستعد لإرسال صواريخ نووية، والرد المحتمل عليه، وأن قوم دموستين (الإمبدوقليون)، الذين ترجع سلالتهم إلى الإغريق القدامى، وسنعرف لاحقاً أن موطنهم أعالي البحار، قرروا التدخل لوقف الفناء.
مغامرات وأحداث
تأخذ هذه العملية شكل مغامرات وأحداث وردود أفعال بين الطرفين، القوة الطارئة والولايات الأميركية لها صلة وصل مع العالم الخارجي من خلال شخصية مورو، رفيق دراسة سابق لأليك الرسام وعلى لسان هذا وذاك تُسرد باقي الأخبار، امتداداً إلى برهنة "الإخوة" عن نياتهم الحسنة بمستشفياتهم العائمة التي تشفي من جميع الأمراض، وتقهر الموت نفسه، وعبوراً بتبدل معيش البشر وآمالهم في الشفاء بدءاً من الرئيس الأميركي، واستقراراً في فضاء الجزيرة حيث الكسندر وإيفا يبرمان علاقة جديدة تعيدها هي المتعاطفة مع الوافدين، وروايتها الأولى تبشّر بمقدمهم ورؤيتهم، وتدفعه هو إلى مساءلات وجودية. وتنتهي الحكاية ذات الحكايا الفرعية بمغادرة "الإخوة"، بعد تشييع لضحايا الطرفين تحضره زعيمة الوافدين إلكترا.
لقد نفذوا جزءاً من مهمتهم، تاركين رسالة للبشرية يسألونها إن كانت مستعدة للباقي، فيما أثمرت علاقة إيفا بأليك، وقد استعادت حيويتها وحَمِيّة الكتابة، حَملها منه، فكأنما الحياة ستبدأ للمرة الأولى بالبراءة والأمل، في ظل السلام.
يوميات
كتب أمين معلوف روايته، حكايته في قالب يوميات، الحق أنه استعاره شكلاً ليتسع فصولاً متفاوتة الطول، وتتعدى إطارها فتأتي سرداً حادثاً في حينه وتدويناً معاً، يحتاج المؤلف أن ينبه له، على امتداد شهر (من 9 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 9 كانون الأول/ ديسمبر).
اليومية تعبير ظرفي، ينقل عند كاتبها (LE DIARISTE) حادثاً، ما رأى، وإما إحساس يومه ولا يتعداه. إنه نص لزمن خاص مجتزأ من زمن عام، وهذا ما يحدث بالفعل لأليك زندر الذي سيعيش خلال شهر مجموعة من الأحداث والعلاقات ستؤثر بقوة على حياته ونمط معيشته في جزيرته. لكنه رغم كل المؤثرات والانشراح العارم لصدره، يستأنف الحياة حيث هو بمعنويات جديدة.
تنضوي رواية أمين معلوف ضمن موجة سردية تخييلية في الرواية العالمية والفرنسية، إحداها لا تقنع بالأرضي، وتندفع نحو ملكوت الغيبي بوساطة من قبيل الخيال العلمي، فكأنّ الإنسان استهلك إمكانات التراب والهواء ونفد زاد الروائيين من المجتمعات العصرية في نماذجها المستعادة وبشريتها وأنوياتها النمطية. ما ظهر جلياً في الرواية المتوّجة هذا العام بالغونكور (L’ANOMALIE) لإرفي دوتليي، إنما يزيد عليها أمين معلوف بنزعته التعليمية المباشرة، لتقف عندها في الحوار المباشر من نوعية الأفكار والمفاهيم المستعملة بين الفاعلين أو الحوار الداخلي الطويل للشخصية الساردة المركزية؛ قبل هذا تصميمه، سرده، بناء على أطروحة، جرياً على سائر أعماله.
فهو صاحب كتابة رسولية، تنطلق من مبادئَ ومُثل محددة سلفا تصنع الحكاية القادرة على تجسيدها وتمثيلها لتصل إلى أوسع قطاع من القراء. بذلك هي رواية أو قصة أمثولة (Exemplum) الحاملة لرسالة خلقية وحتى دينية، نوع استُخدم منذ القدم، وأبدع فيه أمين معلوف، الكاتب الرصين، بثقافته الموسوعية، المشدود بالحنين إلى الحضارات القديمة، ما انفكّ يستمد من نسوغها حكاياه وشخصياته... من الحضارات القديمة والموروث الثقافي للإنسانية جمعاء، والهلليني هنا على الخصوص، يستوحي شخصياته.
لننظر إلى أسماء مثل: إلكترا، أغممنون، ودموستين... ثلاثتها بمثابة أيقونات لها تاريخ ورمزية في ما تحيل إليه، ويمكن أن يُبنى على هذه الإحالة تأويلٌ خصوصي للرواية هو إحدى الطبقات المنضدة في التضاريس المعرفية للمؤلف وتندرج في خطاطة عمله. وعموماً فهي تنتسب إلى الحضارة العريقة التي جعل المؤلف من (أومبيدوقل) أباها وبه يلتحق (الإخوة) الذين قدموا إلى كوكب الأرض في الزمن الحديث لدرء الكوارث النووية وتجنيب البشرية الفناء.
هكذا يظهر أمين معلوف من روايته الأخيرة مُرسِّخاً ومُوسِّعاً لخُطى سابقةٍ له، كأنه جاء يخلف جبران، إنما برسالة الحكمة والتدبر في الإنسان والزمن واستشراف آفاق غد السلام، وتظهر كتاباته أكبر من أن تحصر في انتماء عرقي وثقافي ولغوي واحد، وإحدى الكلمات - المفاتيح لازمة في القصة هي التعدد والكثرة (multitude)، وإنها تمزج وتصهر الأعراق والثقافات واللغات في تركيب جديد، خلاسي وأكثر، لا عجب أنه استدعى قوما، سلالة أخرى، من أعماق التاريخ لتحل ضيفاً على بشرية فقدت اليوم البوصلة وتذهب إلى العدم.
هكذا الرواية الحكاية (ذات مهارات فنية وأسلوبية عالية) وكاتبها يجيئان بشيراً مطلوباً. وأظن هذا وضع الكاتب الإنساني بحق، لذلك فإني أستشرف أمين معلوف من الآن متوّجاً بنوبل للآداب، يستحقها وتحتاج إلى اسمه.
نقلا عن موقع النهار العربي
www.annaharar.com