الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ليل طنجة: "تمرّد على السياق والشكل"

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
رواية "ليل طنجة".
رواية "ليل طنجة".
A+ A-
إذا أردنا أن نتفرّغ ولو مؤقتاً لعنوان رواية محمد سعيد احجيوج الأخيرة "ليل طنجة" الصادرة عن دار العين المصريّة (طبعة أولى 2022) المرفق بغلاف يعكس بألوانه نوعاً من الفرح المقلق الذي يحاول عبر القمر والمرأة تصوير الليل بصورته الكلاسيكيّة "رفيق العاشقين" لاعتقدنا أن صاحب اليد والقلم عاشق يرى في ورقته ما لم يستطع إخراجه من أنفاس سيجارته من عشق وحنين وذكريات... طبعاً ستكون تلك قراءة سطحيّة تراثيّة في التحليل الدلالي لرواية تحمل النقيض في داخلها... فالكاتب اختار الغرائبيّة والعبثيّة وما يتشعب من هذين المفهومين من تفكك وتشتيت وإكثار من تفاصيل تشكل تمهّلاً في تقديم التركيب السردي من جهة وتمرير قراءة نقديّة اجتماعيّة بلون درامي ساخر.

الشخصية الرافضة للتحوّلات

لم يكن أمام صاحب رواية "كافكا في طنجة" المتسع السردي الكافي ليقدّم صورة خاصة مختصة عن كل شخصيّة ذكرها في الرواية، وبالتالي انتفى مبدأ التحوّل الطارئ بالضرورة وإجمالاً على معظم الروايات الواقعية وروايات النقد المجتمعي التي تعكس بحسب تسمية جورج لوكاش "الرؤية إلى العالم" لروائي يلعب على حبل النصّ الداخلي ومحيطه الخارجيّ. فإذا أردنا البدء بتسويغ ما أوردناه في السطور أعلاه نستطيع البدء بشخصية الراوي المضطربة التي قد تكون هي الكاتب نفسه وقد تكون جواد وقد تكون أي شخصيّة رست على مفهوم المتلقي، الشخصية التي استهلت "بوحها" بمأساة عاطفيّة "رحلتِ يا حححميدة الملعونة سبعاً، رحلتِ والرحيل كما الموت..." (ص7). الراوي المضطرب هنا بدأ بلازمة تكررتْ أكثر من مرّة بسياقات وتراكيب مختلفة "اللعينة حميدة جرتني إلى مستنقعها"(ص98). "كما قالت حميدة. يا حححم حميدة الملعونة سبعاً" (ص74). هذا المونولوج المطروح الذي تفوّق فيه الراوي حباً كعاشق متحسّر على حبيبته التي تركته مقارنةً بالابن الذي فقد أمّه لأسباب تاريخية بسرطان غاز الخردل الذي أطلقته إسبانيا على شكل قنابل على البقع الجغرافية المغربية تجعلنا نتأكد من أن الكاتب أظهر لنا الشخصية المكتملة على أنها مريضة بالبوح لا معالجة لأي عقد. آية ذلك أن الجانب السياسي والمقارنات والمقاربات العابرة للأحداث أتت رديفة لشخصيّة ترفض أي تمهل أو وقوف عند حدث بل راغبة بالفضفضة فقط: "أين ذهبت الشقراء البهيّة روسيا؟ المسكينة مشغولة تنظف خلف بشار الأسد" (ص77)...
 
وانطلاقاً من عامل السرد المحض الذي تلاه إطناب يظهر أمامنا رفضاً كليّاً لأي معالجة أو إسقاط تحوّل على الشخصية المتكلمة وبالتالي نحن أمام تفكيك للذات ومشاكلها والمجتمع وقضاياه دون طرح أي مسألة علاجيّة أو مجتمع بديل... وبالتالي نحن أمام أزمتين، أزمة الركود الفرديّ المتمثل بجعل النص مرآة تعكس هواجس الراوي، وأزمة الإطناب التي أفسحت المجال للنقد لكنها لم تستطع مساعدة الشخصية على تجاوز أزمتها وبالتالي التحوّل.

النقمة السياسيّة والجنسيّة

كل الثغرات النفسية المتشكلة منذ بداية الحديث المسرحي الفردي للشخصيّة بصوت روائي واضح حاول عبثاً الانسلاخ عن ذات الكاتب فأخفق حين عاد الى روايته "كافكا في طنجة" وأخفق أكثر حين حاول إقحامه من ضمن الشخصيات الرفيقة لجواد المدرّس الانطوائي المستقبل للموت بكل أشكاله بدءاً من موت الأم ورحيل الحبيبة وانكفائه المهني، جعلته يطنب في الحديث السياسيّ أولاً من خلال نفضة تاريخيّة لما اختلج المغرب من نكسات أيام اعتراك عبد الكريم الخطابي والمستعمر الإسباني: "لكن سرطان أمي لم يأتِ بسبب تلك الحبوب بل بسبب أطنان غاز الخردل التي ألقتها إسبانيا على جبال الريف لتغطي هزيمتها الفادحة في أنوال" (ص9). سياق تكرر لاحقاً حين سرد الكاتب بالتفصيل معتمداً على السلالة العائلية كيف تلقى كل جيل نصيبه من هذا السرطان، وهذا كان بمثابة جرح تاريخي ما زال ينزفه المغاربة حتى يومنا هذا، وصولاً الى هجوم عنيف على النظام الملكي "لذلك لن أخبرك عن الأفكار التي تدور في رأسي الآن حول مساعدة إسرائيل الحسن الثاني في العثور على المعارض السياسي المهدي بن بركة بعد أن ساعدهم الملك في التجسّس على القمّة العربية... (ص75). مساحات سياسية نقدية منحت الكاتب مقدرة على تسويغ عبثيته واستطراده تحت عنوان "الشخصية المأزومة" الخاضعة لمسمع الطبيب الذي لم يتكلم أو يبدِ رأياً أو مداخلة، وهذا دليل آخر على ما أسلفناه عن عدم الرغبة في التحوّل أو التمركز العقلي لشخصية جديدة تودّ التغيّر جذرياً. إلا أن هذه المساحة السياسيّة قد أحدثت تخلخلاً في النظام الروائي حيث اتجهنا بفعل غياب التفاعل بين شخصية وأخرى أو بين الشخصية وذاتها إلى منطق يقارب السيرة الذاتية بدلاً من أن تصنع هذه الآراء بشكل مضمر حدثاً أو أحداثاً.
وكذلك بالنسبة للطروحات الجنسيّة حيث كان الجنس التيمة الهاجس بين الشخصية المتكلمة والشخصيات المتكلَّم عنها، ما دفع الكاتب إلى طرح تساؤلات تربط الجنس بالدين أو الدين بالجنس "... لنفكر بالأمر بشكل عقلاني استجابة لديننا الذي يدعونا لاستخدام العقل لو بحثنا عن أسباب تحريم الجنس خارج نطاق الزواج أو الزنا... سنجد أن السبب الأول هو حفظ الأنساب..." (ص136)...
هذه النقمة والنقد الساخر لمواقف وقضايا يتعامل معها البعض بطريقة غير عصريّة كانت الضفة الثانية للكاتب كي ينجو من تفكّك الحبكة وتشتت السياقات نتيجة الاسترسال والإطناب في بعض الموضوعات الفكريّة.

تعدّد الأشكال الخطيّة ودلالاتها

اللافت منذ مطلع الرواية تعدّد الأشكال الخطيّة وتنوّع الخطوط وأشكالها للقفز من الهامش الذي أريد له أن يكون ذا طابع يشبه الديباجات التي تستبق النص المسرحي (الكتابات المائلة الخطّ مثلاً في النص) والأفكار المحذوفة بخط رفيع لإضفاء طابع العفوية وجعل الصفحات مسوّدات روائي محتار وضائع بين لفظ الفكرة أو كبتها وعدم قدرته على سيطرته على الانفعالات التي تسبّب حشواً أحياناً وتجبره على الحذف... أمّا الخط الرفيع فكان من نصيب الفقرات المقتبسة من كافكا في طنجة التي كان كل اقتباس منها يضفي الشربكة لمن لم يقرأ الرواية ولذة لمن سبق له أن قرأها.
لعب احجيوج لعبة البيضة والحجر في توزيع أفكاره انطلاقاً من إضافة حركات مسرحية على الشكل الخطي والسياق مثل "ههههه"، "بخ"، "نياهاهاها" وكأنه يحاول نقلنا من وحدة القراءة الى وحدة الإنصات وهذا ما يصعب تحقيقه لكون اللاوعي الجمعي سرعان ما سيتفكك ويختلف حين يغوص كل متلقٍّ ويفلسف السياق كما يراه.

رواية ستكون لذيذة للقرّاء النخبويين العقلاء ومستفزة للقراء الكلاسيكيين، تمرّد فيها الكاتب على السياق وأدخل من ثغراتها الظاهرة كل ما لم يستطع قوله سراً أو علناً.
رواية حاول محمد سعيد احجيوج أن يؤدّي دور فولتير الذي تحدث عن ألوهيّة الروائي المختفي خلف نصّه... لكن سرعان ما قدّم لنا كتاباً بآيات عبثيّة تبحث دون جدوى عن سورها.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم