النيات السيئة... النيات الحسنة

يحيى عبد العظيم- شاعر وكاتب وصحافي وأكاديمي مصري
 
كان أستاذي الراحل أبو همام، الأستاذ الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، لا يكتب غير اسمه فقط على أغلفة كتبه مجرداً من أي لقب. ولما سئل عن ذلك؛ كتب تحت عنوان "بيان واجب" تصديراً لأحد كتبه ـ على ما أذكر أنه كان "مقامات ورسائل أندلسية"، موضحاً لماذا لا يكتب لقبه العلمي، وهو الحاصل على دكتوراه دولة من مدريد، حتى أصبح رئيساً لقسم الدراسات الأدبية، ثم وكيلاً لكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وهو تلميذ عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، فقال: إنه وجد السباك مهندسا، والميكانيكي دكتوراً، وأن الألقاب أصبحت مسخاً بعد أن لقب كل واحد نفسه بما يريد، فآثر ألاَّ يكتب لقبا على كتبه لذلك.
 
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا لو أنّ أبا همامٍ كان موجودا بيننا اليوم؟
هل كان سيرضى عن كل هذا المسخ، وهذه التفاهة التي تحاصرنا في كل مكان؟
لقد كان أحدهم صديقا عندي على "فايسبوك"، فإذا به كلما التحق بصفحة، أو مجموعة من المجموعات؛ عرَّف نفسه في سيرته الذاتية بأنه عضو كذا وكذا وكذا حتى امتلأت صفحاته، وزادت صفحات عليها من هذه المجموعات التي انضم إليها، وأذكر أنَّ أساتذتنا في دار العلوم ـ جامعة القاهرة؛ لم يكونوا يقبلون منا معلومة واحدة مأخوذة من الشبكة العنكبوتية إلا أن تكون موثَّقة على أرض الواقع، فكنا نضطر إلى أن نلف الكرة الأرضية بحثا عن مصدر هذه المعلومة؛ لتوثيقها وإلا تعرضنا يوم المناقشة للوم من لجنة الحكم: لماذا أخذت هذه المعلوم ومن أين، وأين مصدرها ورقيا، فكنا نتحرى الدقة تحرّياً مُرهقاً مُجهداً، حتى نصل إليها موثقة في مكانها وزمانها وطبعتها الورقية قبل أن نثبت حرفا واحدا منها.
 
ما زاد الطين بلَّةً الآن؛ ما نجده منتشراً بين ظهرانينا من دروع وشهادات تقدير ودكتوراه فخرية وسفراء للنيات الحسنة يصدِّرها ذلك وهذه في تعريفاتهم وسيرهم؛ يمنحها مَن لا يملك لمن لا يستحق، ففقدت هذه الألقاب الحقيقية قيمتها أمام هذا السيل الجارف من المسخ والجيف والتضليل من أولئك الذين أنشأوا مجموعاتهم في ذلك الفضاء العنكبوتي الأزرق، مانحين هذه وتلك، وهذا وذاك شهاداتهم الوهمية وسفراءهم الزائفين؛ ليملأوا كل مكان طنينا بهذه الألقاب التي ما أنزل الله بها من سلطان لكل مَن هبَّ ودبَّ.
 
وحين تقول رأيك في ذلك؛ يغضب منك هؤلاء الممنوحين من كلامك، ويأخذونه على أنه حقد منك، أو حسد على ما لم تنله أنت، وأنهم أحقُّ بذلك، فاختلط الحابل بالنابل، واشتبه على الناس الحبل بالسهم؛ والهرُّ بالأسد، وإذا كان ديك الجنِّ الحمصي؛ يقول:
وليس يعرِفُ لي قَدْرِي ولا أَدَبي
إلاّ امْرُؤٌ كانَ ذَا قَدْرٍ وذَا أَدَبِ
 
فإن هؤلاء المانحين، وأولئك الممنوحين؛ لم ينزلوا الناس منازلهم، ولا هم أولئك المخوَّلين بذلك، بل على العكس، فإن هذه الأمور تُفقِدُ أصحاب القيمة والقَدْر قيمتهم، وتحطُّ منها؛ لأنهم في ذلك يستوون بمَن هم دونهم؛ ليكونوا جميعا في سلة واحدة من تقدير مانح لا يستطيع أن يقرأ جملة واحدة؛ ناهيك عن عدم قدرته على كتابة جملة واحدة كتابة صحيحة، في شهادات ودروع ودكتوراه فخ... رية، وفخ صكوك النيات السيئة التي تقف خلف النيات الحسنة التي يمنحونها مليئة بأخطاء فادحة، أو إن شئت قل: فاضحة ما بين إملاء ونحو ولغة حتى إنك لتقول حين تراها: إن البقر تشابه علينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
وما النيات السيئة التي تقف خلف النيات الحسنة إلا زيادة المسخ مسخاً، والتفاهة تفاهة، وتزييف الوعي وتضليل الناس، وإعطاء قيمة خاصة لمَن لا قيمة لهم، والأدهى والأمرُّ حين تجد أن آلاف الإعجابات والتعاليق تدور حول مضامين تافهة فاسدة مفسدة للذوق والوعي، يمنحها أولئك المانحون بعضهم بعضا، بإمارة الشعر تارة، تحت مسميات واصطلاحات مكانها الصحيح سلة المهملات، وليس التقدير والسفارات الحسنة التي تقف خلفها النيات السيئة.
 
أذكر أننا وفي السنة الأخيرة من دار العلوم القاهرة في العام 1989م؛ كنا قد رتبنا للقاء مع الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، فجاء إلينا، ولحسن حظنا؛ كان العام الدراسي قد كرب على الانتهاء، وقد سافر كثيرون من الطلاب إلى مقارِّ إقاماتهم للمذاكرة استعدادا للامتحانات النهائية وقت أن كانت دار العلوم هي دار العلوم الوحيدة على مستوى العالمين العربي والإسلامي حتى استنسخت منها وزارة التعليم العالي المصرية كليات أُخَر تحت هذا الاسم.
 
جلسنا إلى الشاعر الكبير في جلسة خاصة بمكتب عميد الكلية آنئذٍ المغفور له الدكتور محمد البلتاجي أستاذ الشريعة الإسلامية الذي أمر عامل مكتبه بحسن الضيافة والانتظار حتى ينتهي ذلك اللقاء وقتما ينتهي، وقد فعل.
 
طلب منا حجازي أن يقول كل واحد قصيدة، ففعلنا، فما إن انتهينا من قصائدنا حتى خاطبنا بحنوٍّ قائلا: وجدت بعضكم ملتحفا بعباءة نزار، وآخر بعباءة درويش، وآخر بعباءة أمل دنقل، فاستمعوا لي: فكما أن هناك "مزبلة للتاريخ"، فكذلك هناك "مزبلة للشعراء" إذا لم يصنع كل منكم لنفسه بصمته الخاصة في هذه السنِّ، فسوف يكون هذا مصيره، فاجتهد جميعنا، وفرقتنا الأيام وتقطعت بنا السبل، ومع ذلك، فكل منا يحفظ للآخرين أقدارهم.
 
فلا يغترر أحد بمنح وعطايا من لا يملك لمن لا يستحق، ولا ينزعج أصحاب القدر والقيمة من مثل هذه التفاهات التي أصبحنا نراها في كل وقت حتى طغى الغث على الثمين/السمين، واتركوهم في طغيانهم يعمهون؛ فإن هؤلاء وهؤلاء لن يخرقوا الأرض، ولن يبلغوا الجبال طولا، والأمثلة كثيرة على أن التاريخ دائما يعطي لكل ذي حق حقه، وإنني بصفتي محققا للتراث الأدبي العربي، ومتخصصا في الأدب العربي القديم؛ أنقِّب الآن عن كنوز ذلك الأدب الثَّرِّ التي تكاد تخفى على كثيرين حتى من أولئك العاملين في حقل الدراسات الأدبية، فأخرجت منه كنوزا معيدا لكثيرين منهم قيمتهم وهيبتهم وقدرهم حتى بعد مرور ما يزيد على 1200 عام على رحيلهم، فاطمئنوا، فإن هناك من سينصفون الأدباء والشعراء الحقيقيين، ويلقون بأصحاب النيات السيئة الذين يقفون خلف زيف النيات الحسنة في أقرب "سلة للمهملات".
 
وإن كان أحدكم لا بدَّ فاعلا، فليتخذ كذلك قول ديك الجنِّ الحمصي نصب عينيه:
إِنْ كانَ عُرْفُكَ مَذْخُوراً لِذِي سَبَبٍ فاضْمُمْ يَدَيْكَ على حُرٍّ أَخي سَبَبِ.
 
واعلم أنك
إِذا جارَيتَ في خُلُقٍ دَنيئاً فَأَنتَ وَمَن تُجاريهِ سَواءُ
وما بين أبي تمام وديك الجن وأبي همام وكاتب هذه السطور وشيجة قربى، وآصرة رحم الإبداع التي تفتأ تبحث عن كل ذي قيمة في عالم طفا فيه أشباه الأميين وأنصاف المثقفين، ومع ذلك فكثير من لآلئ وأصداف عالمنا العربي؛ لا يشغلون بالهم بمثل هذه الأمور؛ لكنها دعوة لكل صاحب قيمة ألاَّ يترك الساحة لهذا الزبد الطافي على كل كثير من مناحي حياتنا الثقافية والإبداعية بل والسياسية على السواء.