في رحيل والدي صاحب "ندوة الخميس"

 
محمد شرف
 
في مثل هذا الشهر، الذي يُفترض أن يكون خريفياً، ومنذ ربع قرن، غادرنا والدي علي شرف إلى العالم الآخر.
خمسة وعشرون عاماً انقضت على ذاك الرحيل. يبدو الأمر حيناً أنه حصل البارحة، ويبدو في أحيان أخرى كأنه حدث في زمن آخر، وفي مكان آخر. فمنذ عقدين ونصف عقد كانت الحياة "ممكنة"، ولم تكن تسير على رداءة مستفحلة، كالتي نشهدها ونعيشها في اللحظات الحاضرة. 
 
المدينة لم تعد تلك التي عرفها والدي، والخليقة لم تعد هي نفسها. السنوات التي أعقبت وفاته غيّرت وجه المدينة، وبدّلت ديموغرافيتها. كان هناك "ليل" يسهل إحتماله، ولم تكن مدلولاته المجازية على ذاك القدر من السوء. أو ربما هذا ما يُخيّل إلينا، قياساً بما نراه اليوم.
أراد علي شرف أن يُضيء شمعة في الظلام الحالك، بدلاً من لعنه. كان ذاك شعاره الدائم. رفدت الشعارَ حيويةٌ فائضة كنت أجهل دائماً من أين يأتي بها، وكيف يشحنها في كل مناسبة. "ندوة الخميس"، التي أسسها في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، واتخذت من مقولة الشمعة المضاءة في العتمة شعاراً لها، بقيت حيّة حتى سنوات حياته الأخيرة. فترة قياسية نسبة إلى مدينة، وإلى بلد أصبحت فيه الثقافة أشبه بجسد عليل لا يقوى على مواجهة الهزّات الكثيرة، والمطبّات الخبيثة. مثابرة غير عادية تستند إلى إقتناع بأهمية الوعي والثقافة، ولا توقفها العثرات التي يصنعها المحيط، بوعي منه أو من دونه. كان يبتكر الموضوعات والمناسبات، يشرك فيها أكبر عدد ممكن من مريدي الفعل الثقافي المتحمسين، ويلاحقهم خلال تنفيذ المهمّة حدّ اللجاجة والإحراج. فهمنا سرَّ هذا الإلحاح حين حاولنا، بعد رحيله، النهوض بـ"ندوة الخميس"، سارت الأمور على ما يرام لفترة، لكن نفسنا كان قصيراً، فتلاشت مسيرتنا مع الأيام.
 
حيوية والدي لم تنتقل إلينا بكامل زخمها، كما تنتقل الجينات من جيل إلى آخر. وصل إلينا بعض منها، يرتفع منسوبه أو ينخفض بحسب الظرف. كان متفائلاً في غالب الحالات، ويكتم تشاؤمه فيتمظهر ضيقاً لا تُعرف أسبابه. يرى الضوء في نهاية النفق، على ضآلة وهجه، وطول المسافة إليه. أما نحن فمزاجيون، وقد فعل العامل الموضوعي فعله فينا، وصارت حساسيتنا المفرطة عائقاً. يحاصرنا اليأس، فنحاربه بالأسلحة المتاحة، وهي قليلة. لم تعد أعيننا تمتلك القدرة على تمييز الضوء، في عالم قد لا تكفي آلاف الشموع لإنارة جزء بسيط منه. نتمسك ببعض الأمل الذي تحمله أرواحنا المتعبة، ويتغذّى مما ينثره أصدقاء لنا لم يستسلموا، ولا يزالون يقاتلون بالكلمة، ونحن عارفون بعذاباتهم، ألم يقل بوذا: "إن الأمل يقترن دائماً بالعذاب".
 
لم ينغص تفاؤلَ والدي ويطفئ حماسته سوى المرض. أغرقه الداء في دوامة تنفلت من تيار، ليتحكّم بها تيار آخر. مرض خبيث لم تفلح في التغلّب عليه أدوية كثيرة. كان من الممكن أن يعيش سنوات إضافية، كي يبارز عبرها الواقع، لكنه كان سيرتطم بمستجدات لم يعهدها، ولن يكون في استطاعته هضم موبقاتها. كان يردد أمامي: "هذه الدولة لم تنصفني".
 
ومتى كانت الدولة تنصف أحداً؟ لو كان لا يزال حياً لرأى ما فعلت الدولة والطبقة السياسية بنا، واستشعر الدرك الذي أوصلتنا إليه. تشاء المصادفة أن يرحل في الشهر نفسه الذي شهد، لعام مضى، انتفاضة قلّما عرفها التاريخ اللبناني الحديث، مهما حاول البعض تقليل شأنها، ووصمها بصفات لا تمت إليها بصلة. لو كان حياً لكان الآن واقفاً، من دون شك، في صفوف الثورة، مؤدياً دوره بحسب الأسلوب والطريقة اللذين يراهما مناسبين. فالثقافة، التي كانت همه الأول والأخير، لن يكون في إمكانها النظر إلى الوراء، ففي ذلك خيانة موصوفة لدورها ومكانتها.