الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

بيروت إن حكَتْ

المصدر: "النهار"
بيروت بريشة شوقي دلال.
بيروت بريشة شوقي دلال.
A+ A-
سمير سعد مراد
 
لكأنّها، كما يتراءى لي، عَرْضٌ مشهديّ لوقائعَ تاريخية فذّة: مدينة لؤلؤة. تغصّ بالحركة، بالكلمة، اللغة اللغات، الشعر، الأغنية، الموسيقى، اللوحة، السياسة، الرقص، الصورة. جوهرةٌ في دنيا العرب.
 
لكأنّها إنْ حكَتْ، إنْ ضحكتْ، إنْ بكتْ، حلمٌ، قُلْ فيلمٌ يُزاوج بشرائطه، بين ما هو وثائقي وما هو دراميّ. مدينةٌ مُشَرْقِطة. واهبةٌ منهوبة. نادرةٌ. بل الأندَر. 
 
نفضت الزلازل، وأشرقتْ مجدّداً تِلْوَ مجدّد: مدينةٌ فريدة تناوبَتْ عليها الكوارثُ، الطبيعية منها وتلك التي من صُنْع البشر؛ لكنها يستحيلُ عليها، قُلْ تتأبّى، أن تصبح دارسة. فرغمَ مآسي الهدم والدمار والتدمير المتعاقبة، ترى إليها تَتَفَيْنَقُ مجدّداً. أجَلْ، هو هي، طائر الفينيق ذاته إيّاه. تنهض مجدّداً من الركام ذاته، في مكانها ذاتِه. بل تتمدّد كذلك. ترفض أن تعيد إعمارَ ذاتِها وهواها التحاقاً بجغرافية أخرى. قُلْ هي الحضور ذاته جوهراً، وبأغنى فأغنى. هي الدور ذاته، بأنضجَ فأنْضج. كيف لا، وهي أوّل مدرسةٍ للحقوق، للقيَم،؛ فتعرف، كذلك، أنْ تنتقد ذاتها لقُصورٍ ما في جوانب علاقاتها مع عوامل الطبيعة الغفْل، مسقط رأسِها في الأصل. وهي بمنظار وعيها النقديّ، وبمساره التاريخي، راحتْ ترى لاحقاً، إلى تطوير بيئتها ومحيطها العربي وتحديثهما.
 
هل أنّ في ذلك يَكْمنُ سرُّ جاذبيتِها التراجيدية التي تشدّ بك لتقعَ في حبّها منذ أوّل قراءةٍ في تضاعيف عمرها وكتابها السميك، في سيرة ذراعيها المشرعَتين أبداً لِفتيةٍ، لشبّانٍ وشيبٍ، هاموا بنضجها وعطرِها، بإغرائها الناضج الناضج؟
 
هل أنّ سرَّها ذاته، إيّاه، كامٍنٌ في تَأبّيها الاستقالة من دورها؟ في عدم التسليمِ بالإذعان لمحاولات ولتآمرات إقالتها المتعدّدة؟
 
سرُّها هذا، لا يُختزَلُ في كونها، مجرّد كونها، "نجمتنا الوحيدة" على حدِّ تعبير ابن فلسطين، المهاجر الراحل محمود درويش؟
 
هل أنّ بيروت، أصلاً، شاءت هذا الموقع استئثاراً تتفاضلُ به على الحواضر العربية الأخرى؟ أم هو، يا هل تُرى، الشّقاء العربي العمومي المزمن حتى يومنا اليوم؟
 
أجل، بيروت مدينة ينتابها الألم. بيد أنّها تُصّر على الحياة، على الإبتسام، وعلى الفرح كذلك. لم يدخلْ في رَوعها، قطّ، أن يكون تفجير المرفأ، شريانها الحيوي، القلب النابض، آخرتها الوخيمة، كآبتها الربداء.
 
أجَل، لم يدخل في رَوع هذه المنارة قطّ أن يكون العبوس والكمد واليباس، بإحراق إهراءات قمح اللبنانيين وخبزهم حياكةً مدروسةَ الأهداف والأوان لاغتيال السمك والبحر والرمل والحصى والبشر، والواردات والصادرات، اغتيال الأمواج ذاتها، قُلْ إلى اقتلاع الأملِ من جذوره.
أجل، لم يدخل البتّة، في روع اللبنانيين، غالبيتهم الساحقة بالتأكيد، ما عدا فرقة من "الفرسان" الفرّيسيين، أن تتحوّل هذه البيروت الطاعنة في هذه الأرض، على شاطئ بحرها المتوسطي الساحر، إلى مجرّد أشلاء. وهي، هذه البيروت، التي لم تطوِ أشرعة ألقِها ومبادراتها المقدامة في نسيجها، وفي محيطها العربي، لا سيّما في رياداتها العربية التي معدنها الأوّل لسان العرب، اللغة أصلاً وبناء وتحديثاً؛ ومعدنها الملازم الثاني الحرية، واحترام التنوّع، والبناء على مقاومة فرْضِ الأحاديّة والتماثل.
 
بيروت في ذاكرة التاريخ، تاريخ العالم. بيروت باقية منارة في جغرافية العالم.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم