الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٧٤ - "قهرمان": معضلة أخلاقية جديدة لأصغر فرهادي

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
"قهرمان" لأصغر فرهادي.
"قهرمان" لأصغر فرهادي.
A+ A-
أصغر فرهادي رهيب. حكواتي بالفطرة. يعرف كيف يسرد قصة بأقل حاجة إلى الموارد السينمائية. سيناريو متماسك وبعض الشخصيات القوية يكفيان لبناء عالمه. التقليل سيد أفلامه التي بدأ ينجزها قبل نحو عشرين عاماً قبل أن يذيع صيته دولياً مع "انفصال" ("دب" برلين ٢٠١٠). جديده، "قهرمان"، الذي عُرض في مسابقة مهرجان كانّ السينمائي (٦-١٧ الجاري)، الأوفر حظاً حتى الساعة لنيل "سعفة" هذا العام من يد الأميركي سبايك لي، رئيس لجنة تحكيم الدورة الرابعة والسبعين، ذلك أنه يستوفي كل الشروط التي تجعله عملاً كبيراً فيه بُعد اجتماعي من وحي الحياة اليومية، بالإضافة إلى القيمة الفنية. مرة أخرى وجديدة، يراقب فرهادي بصرامة وتسامح ورقّة وإنسانية وقلب مسكون بعاطفة يسيطر عليها تماماً، المجتمع الإيراني الذي خرج منه. هذا المجتمع الذي يفهم تفاصيله، كان لا بد من العودة إليه ولهمومه وتناقضاته وبؤسه ونفاقه، بعدما حطّ قبل ثلاث سنوات في أسبانيا، حيث أخرج فيلمه التاسع، "الجميع يعلم"، مع نجمين أسبانيين لا يتحدّث لغتهما حتى. فيلم أمكن تفاديه لولا تفهّمنا حاجة السينمائيين الإيرانيين إلى تنشّق بعض الحرية خارج حدود بلادهم.

العودة إلى الينبوع تستحق الاحتفاء. ليس لذاتها، بل لأنها تأكيد على أنّ "طريقة فرهادي" المكثّفة لا تزال فعّالة ولم تُستنفد بعد بضعة أفلام. اختار عنوان "قهرمان" لفيلمه، الذي يعني (بحسب موقع "ويكيبيديا") "القائم والوكيل والحافظ لما تحت يده" بالفارسية، لكن الغرب فضّل ترجمته بـ"البطل"، وهو في ذاته عنوان سجالي ينطوي على بعض اللبس، سنعود إليه لاحقاً في هذه المقالة.

الأحداث هذه المرة تدور في مدينة شيراز المشهورة بصناعة السجّاد. أما الحكاية فهي "فرهادية" كثيراً. تتوافر فيها كل العناصر التي صنعت مجد المخرج في سينماه البسيطة والمعقّدة في حين معاً. الصراع هو العنوان العريض هنا، يجيد فرهادي كيف يفتعله، حاملاً إياه إلى ذروته الدرامية لقطة بعد لقطة، بحيث يصبح في النهاية خارج قدرة الشخصيات على ضبطارتداداته. سينماه تضع عائقاً لكل حل، لا العكس.

مع "قهرمان"، يعود فرهادي إلى موضوعه المفضّل: الكذب. الرجل الذي سنتعرّف إليه ونتعقّب خطاه هو رحيم (أمير جديدي) الذي يخرج من السجن ليومين (الفترة تبدو لنا أطول من يومين)، بعدما زُجّ فيه بسبب ديون لم يستطع إعادتها إلى صاحبها. خلال هذين اليومين، يسعى إلى إقناع صاحب الدين بإسقاط حقّه عنه، مقابل وعد بتسديد ما عليه. لكن يحدث ما هو غير متوقّع: يعثر رحيم على شنطة فيها كمية من الذهب، فبدلاً من الإفادة منها لإيفاء دينه، يقرّر البحث عن صاحبها، لإعادتها له.

هذه الخطوة الغريبة لرجل في مثل ورطته، تجعله فجأة نجم تلفزيوناتووسائل تواصل. يُنصّب بطلاً قومياً ولو أنّ ما فعله ليس أكثر ممّا على أي إنسان صاحب أخلاق فعله. وعليه، يكسب رحيم تضامناً شعبياً مع قضيته ويجمع المال على أساسه، لكن تظهر أصوات مشكّكة في روايته، تبدأ في طرح الأسئلة: هل رحيم قام بتدبير هذا كله وخدع الجميع؟ سؤال لن نعرف إجابة له. الشك يرافقنا حتى النهاية، وهو الإحساس الذي يبرع فرهادي في بثّه فينا كما في كل مرة. فكلام رحيم لا يؤكد شيئاً، حتى ما نراه بأعيننا ليس بالضرورة دليلاً. السينما فن التلاعب والأكذوبة. في أي حال، هذا ما يتغذّى منه فرهادي: المعضلة الأخلاقية التي يحوم حولها باستمرار، كذبابة حول قطعة حلوى.

يصوّر فرهادي الصعود والانحطاط لهذا الذي اسمه رحيم. يبقى وفياً لطريقته في التعبير عن الأشياء التي تكرّست فيلماً بعد فيلم. هناك اكتفاء ذاتي غير مسبوق. وهناك بساطة تعبيرية في الفيلم لطالما صنعت سر السينما الإيرانية وجعلتها معشوقة السينيفيليين في العالم. بساطة تجعلنا نحار في شأن المصدر الذي تأتي منه الانفعالات والمشاعر التي تأخد المُشاهد على غفلة، خصوصاً في المَشاهد الأخيرة. هذا كله وفرهادي لا يستخدم سوى الأقل الممكن. مَن مثله لا يحتاج لأكثر من ذلك. "فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة". 

الفيلم بأكمله استعارة لوضع اجتماعي وسياسي لا يمكن التصريح عنه بالكلمات المباشرة. هذه خصوصية إيرانية، ما يعني أنه لا يمكن تدريب السينمائيين الإيرانيين - ومن بينهم فرهادي - على عادات جديدة. الطبع يغلب التطبّع دائماً. أما العنوان، فيترك المُشاهد في حيرة ويخلط الأوراق: مَن هو بطل الفيلم؟ يسود انطباع أنّ الجميع متساوون في عالم فرهادي المترنّح بين الواقع والخيال. انطباع آخر يتولّد من الانطباع الأول، وهو أنّ الدائن والمديون وجهان لعملة واحدة. كلاهما على حق وعلى خطأ. وبقدر ما يُعتبر رحيم بطلاً، فإنّ الرجل الذي أعطاه المال هو بطل أيضاً.

"قهرمان"، فيلم متعدّد الاهتمام، ولكن مهما عرّج على مسائل جانبية، يعود ويركّز على الكذب. أين يبدأ وأين ينتهي؟ مسألة الصيت أيضاً مهمّة في الفيلم. هذه مسألة بالغة الأهمية في مجتمع محافظ كالمجتمع الإيراني. يشعر الواحد منا أنّ فرهادي قفز قفزة عالية قياساً بأفلامه الماضية، ليُلقي بنا في أحضان وضع عبثي يحتاج إلى مخرج يملك دقّة ساعاتي لنقله إلى الشاشة.

المشهد الأخير الذي يدوس على القلب قد يصبح من "الكلاسيكيات" منذ الآن، وسيصمد في الذاكرة طويلاً. يضعنا أمام سؤال: هل يستحق الخروج من السجن كل هذه المعاناة والتنازل عن الكرامة من أجله؟ وأين السجن أصلاً؟ وبين النهاية والختام، يلعب فرهادي بالمُشاهد لعبته المفضّلة وهي جعله يغيّر رأيه بالشخصية الرئيسية عشرات المرات ليتركه أخيراً رهين حيرته ووحدته أمام ما شاهده.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم