تراجيديا النسيان

جو قارح

يسقط طيف
ُ الشمس على جثّة البحر النائمة،

يصادر لون الغروب كلّ المشاهد المؤقّتة،

يرفع الشمسَ ليمرّ من تحتها سربُ بحرٍ أبكم،

على جوانح الغيوم غبارُ ما مضى،

تركض به نحو البحر وترميه،

العشب الأخضر المنتشي لا حول ولا قوة،

تصفعه كلّ نسمة كأنّه وُلد لا غد له،

"إسمعِ العالم من وجنة التراب المغمورة بنبض الأخضر!"

حجرُ الطريق يصفّق كلّما طار من بين الزهور رحيقٌ،

يصعب أحيانًا التفريق بين الهرب والطيران،

أطفالٌ على الرصيف يتناتشون درجًا نحو الغيب،

يخبرون بعضهم بعضًا عن جمال الحياة،

عن الثقب الذي حفروه في حائط الخيال،

تترامى أمانيهم ذهابًا وإيابًا عبره،

يتأرجحون على عبّارات أسماها مجهولون "الأيّام"،

هل نكبُر؟

فوق الشجر خيط من السماء،

لا أزرق و لا أخضر،

خيط رفيع تتدلّى عليه نظراتك كعاهرات بلا عمل،

أَقطُفُ منها جعبة أوراق لأحلّق بعفاريتي فوق حضنها.

فجأة،

بينما تُسَرّح مناديلي خصالها على قارعة البكاء،

يعبرني شبحٌ من بين غصون الطريق،

ملامحُه مألوفة تتقاذفها ذاكرتي بين النسيان والشوق،

أشتمّ رائحة غريبة عن غربتي،

تلتصق على يديّ كأنها من أهل البيت،

أُبحّر في قاموس أخطائي عن شبيهة لها،

عن نفحة ولو غير واضحة،

عن أحد أطفالها المتروكين.

لقد عرفتها!

رائحة المقاهي في الليالي الشتويّة تعصف بشَعري المتجعّد،

تَعبر الوجوه الغريبة وترمق جليد الوقت أمامي،

أسمع أصواتًا تنكبّ على سجائر تصرخ:

"إنسَني ودعني أحترق على مهل"

أفلِتْني على منفضة الحديث،

فليكن احتراقي بخورًا على مذابح الضجر!"

يقترب مني إصبع ليسألني إذا أنهيت ما أمامي،

لا أجيب،

أمعس أجوبةً ساذجة بين صفَيّ أسناني،

خوفًا من أن تكون هذه المرة الأخيرة.

أعود،

أعود إلى كرسيّ حديديّ بلا يدين لنمسكهما عندما يقسو الكلام،

أعود لطاولة انبَرَت من كثرة الحبّ المرميّ على نومها،

لفنجان قهوة منعني من شربه وجه ارتسم في دخانه،

لمتسوّلة ارتمت على رجليّ داعية لي باسترداد ما فقدت،

لمطر يكسو الشوارع المهلّلة لرحيل جفاف الصيف،

لي،

لي بسهواتي المتروكة على رفوف نور الشمس الخافت،

لي بحركات يديّ العبثيّة المتداخلة الماكرة،

لي بقارورة الماء التي تشرب من وهمي بينما أشرب ظلّي،

لي ولثيابي كما هي،

"جينز" فضفاض ليخبّئ ما جمعته من دهون،

قميص مفتوح للعالم،

لا يتفاءل إلّا بالصباح العابر.

أعود،

أعود لذكريات هامت على صدر الهدوء،

أعود بين درفتَيّ شبّاك مهترئ،

كيف كنت أجلس،

أسكب لون البُعد في شراييني ليعتق.

يتوهّج الشبح أمامي،

يعانقني فتتدحرج على عنقي عاطفة غريبة،

يلمسني بزمانٍ ما سكنت غرفه منذ زمن،

أشعر بقبلةٍ سرّية تمتصّ من وجنتي غيابًا ثقيلًا،

أتذكّر،

أذكر تمامًا ما جرى هنالك ليلتها،

كيف أفلتُّ يدًا أمسكتُها طوال مرور سحابات الشباب،

كيف انزلق من فمي هديرُ ضياع لا أعترف به،

كلام عجوز غارق في مياه الأسى،

ماذا قلت؟

ماذا أقول الآن وقد ارتعشت على أصابعي نعومة سماويّة؟

إنّها هي،

إنّها أنتِ،

لم أعرفكِ،

لم أعرف شبحَكِ،

كم شاخ! كم صغُر!

كم تغيّر عليّ!

لم أره منذ أن أقفلتُ ذاك الشبّاك وكسرتُ تلك الليلة،

زادت التجاعيد عليه انفتاحًا،

لا يزال بنفس السخونة،

لم أرَه

مذ كان له في جاروري حلُمٌ،

حلمٌ اقترعنا على ثوبه،

حلمٌ زوّجناه للغد فكبر،

أنجب منه آمالًا لكنّها توفيت،

فكبر أكثر،

عاد إلى العمل،

للشقاء في حفر اسمين على جذعِ الأزليِّ، 

كان يحفر بأنامله الطفوليّة في خشونة الأزليّ،

تعبَ،

تفتّتَ،

فكبر،

راح يسقي زهور النوم ويهتمّ بحديقة الحنان،

يقطف الفراشات ويلاحق الورود،

وقع من أعلى شجرة البُعد،

انكسرت رجلاه وأُصيب بالشلل،

فكبر،

دخل مأوى العجزة حين لم يتأمّن له مُعين،

لعب بالورق وطاولة الزهر ليحضر الحظّ لكنّه في إجازة،

تفقّد كلّ فجر رياح الحياة إن كانت تهبّ،

جلس قرب مدفأة ليمحو عن جسده آثار شتاء قاسٍ،

وبعد كل هذه الطقوس البالية،

تمدّد على سريره وشقّ صدره،

حمل قلبه بين راحتيه وراح يغنّي،

راح ينتحب على تابوت معلّق بالأفق،

بكى،

بكى حتى نبتَ تحت قدميه يومٌ،

يوم النهاية،

يوم الرحيل،

ترك قلبه على الطاولة تحت سهام الشمس لينشف،

أغلق الباب وأوصده جيّدًا لئلّا يدخل مجنون ما،

لفّ الحبل على عنقه الرفيع،

ما تبقّى سوى القليل،

لا يحتمل المشهد هذه البشاعة: وقف على الكرسيّ منتصبًا ورمى بنفسه في قمامة العمر.