غلاف الكتاب.
يوسف طراد
الحياة بحقيقتها المرّة والحلوة موجودة داخل رواية "غابة الضباب" للأستاذ شربل شربل، تتمدّد فيها كما الصّهيل، دونما استدعائها أو استدعاء القارئ لأيِّ حادثة حصلت. هكذا جعل الكاتب تلك المرحلة من عمر الوطن، تقفز وتطلّ من الماضي القريب، مرغِماً القارئ على الوقوف مصلوباً من الدهشة أمام صفحات استمتع بقراءتها، ورغب معاودة القراءة مراراً.
لا تأخذ بكلّ ما يكتبه الروائيّون في حياة شخوص رواياتهم، اِنتظر حتّى يغادر الماضي دوائر الزمن ويولي ظهره للجميع، لتقرأ حقائقَ مذهلة مشابهة للحاضر؛ ستدرك حينها لماذا لم يتغيّر مجتمعنا. فهناك من اقترف خطيئة النسيان وابتدع صحوهُ المؤجَّل، والظاهر جليّاً بين سطور هذه الرواية. كيف مضى الوقت ولم يندم كمال، بطل الرواية، على خطيئة استخدام العقل الغبيّ في حضرة الحبّ الرقيق المجنون، وعلى فراق أحبّة غادروا إلى التراب، من دون وداعهم؟
جغرافية الرواية مقطّعة الأوصال، كيف لا وقد جرت أحداثها في وطن ممزّق، وبين كلّ قسم جدار رعب، يخرقه المواطنون كفأرة تتسلّل من كوّة صغيرة في أسفل حائط. وقد كان المرور عبر المَعابر، بدون قيود، مسموحاً فقط لتجّار الأسلحة والمخدّرات، ولسائقي سيارات التاكسي الّذين أقاموا علاقات مبنيّة على المصالح مع الأفرقاء المسيطرين على شطرَي العاصمة بيروت.
يقول شربل شربل بأنّ الرواية اجتماعيّة، لكن، في الواقع، هي رواية فلسفيّة في بُعدها الروحيّ. فقد عرضت إشكاليّة الحبّ العالق بين جسدَيْن وروح. فكمال المهندس الّذي يعمل في الشطر الشرقي من العاصمة، قد أُغرم بحياة الملّقبة بـ"شاديا جمال" وهي راقصة تمارس الرقص الشرقي في أحد الملاهي الليليّة في الشّطر الغربي منها، وكان يعبر إلى الجهة المقابلة بسيّارة تاكسي صاحبُها "أبو الطيِّب البعلبكي" الذي كان يتاجر بالمخدّرات، كما يعمل قوّاداً، وقد أرسل حياة إلى مصر للعمل هناك، مستعيناً بإغراءات الشهرة لإقناعها، وهي غير عالمة بالمخدّرات التي وضعها في طبقة مخفيّة من حقيبتها، وما إن وطئت أرضَ مطار مصر حتّى أُلقي القبض عليها بجرم تهريب المخدّرات، وسُجنت هناك.
في محاولة للهرب من الواقع، بعد عملية خطفه من قِبَل الميليشيات المسيطرة على جانبَي خطوط التّماس، ولنسيان حبّه لحياة، وافق كمال على عرض الشّركة التي يعمل فيها، بتعيينه مسؤولًا عن ورشة تركيب بيوت جاهزة في منطقة الشّريط الحدودي، حيث أجرت اتّفاقاً مع القوّات الدوليّة والصليب الأحمر الدوليّ بهذا الخصوص.
شاء القدر أن يُغرم المهندس كمال بنجاة، وهي معلّمة في المدرسة الرسميّة الكائنة في قريتها ضمن الشريط الحدوديّ. ولم يعلم أنّ نجاة هي توأم حياة إلّا لاحقاً عندما رُحِّلت حياة من مصر إلى لبنان، بسبب وضعها الصحّي السيّىء، وإصابتها بنقص المناعة المكتسبة والسِّلّ، وأُدخلت إلى أحد المستشفيات الحكوميّة في لبنان.
جعلنا شربل شربل نعي الفرق بين حبّ الروح وحبّ الجسد، فالسؤال يطرح نفسه: هل أنّ حب الجسد هو الّذي يقود إلى حبّ الروح؟ ففي هذه الرواية الجسدان المتشابهان جعلا كمال يقع بالحبّ، واكتشف أنّ حبّ الجسد هو الّذي يقود إلى جمال الروح. فقد أغرم بحياة بعد ممارسة الجنس معها، لكنّه أحبّ نجاة بعد استماعه إلى حديثها واستمتاعه به.
جعلنا شربل شربل نفرّق بين الروح والجسد، موضحاً أنّ الحبّ يحرّك كلّ شيء في الجسد؛ قد تضحك العيون وتبكي، ويذوب القلب شوقاً وألماً، والكلام يضيع عند اللّذة... كلّ هذا يحدث في الجسد عندما نحبّ. وعندما نقلنا إلى الشطر الآخر من المعادلة، وجدْنا الروح تحرّك كلّ شيء، وقد صوّرها مصدراً للألم والسّعادة والحزن والفرح والأمان، فقد تشعر بالأمان وأمامك وجه حبيب تتأمّل في ملامحه وتسافر في بحر عينيه.
ويبقى السؤال، هل الفصل في الحبّ بين الروح والجسد هو فصلٌ تعسُّفيّ، وهل الحبّ بالروح والعشق بالجسد هما سيّان، إذا كانت الرغبة بالنزوة تعني عند البعض شكلًا من أشكال الحبّ؟
أجاب شربل شربل عن هذا السؤال، عندما جعلنا من خلال السرد الشيّق نتيقّن أنّه في الحبّ نرى الحبيب بروحنا وهو بعيد. وأظهر في أماكن كثيرة من الرواية المشاعر الجميلة كيف تنبت في الروح وتسكن في الجسد. ورسّخ حقيقةَ أنّ لا عشق بلا روح، ولا حبّ بلا جسد، لأنّ الرب خلق الإنسان روحاً وجسداً.
أغوانا الكاتب بحديث الذّات إلى الذّات -فمن منّا لم يعشق أو يحبّ؟- وجعلنا نفقه، من خلال هذا الحديث، العطَب الإنساني في مدلولاته المختلفة، محاولاً ترويض النفْس على الشّعور بلذة مَن يعانق الوجود، بكثير من الخيال الأدبيّ الفلسفيّ.
وخلافاً للآية التي وردت في سفر حزقيال النبي: "مَا لَكُمْ أَنْتُمْ تَضْرِبُونَ هذَا الْمَثَلَ عَلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، قَائِلِينَ: الآبَاءُ أَكَلُوا الْحِصْرِمَ وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ؟" (حز 18 :2)، لم تضرس أسنان زينة ابنة كمال، لأنّ وعي الأب حال دون ضياع ابنته، وكانت تجربته في الحياة حامية لعائلته كما الميناء للأضراس، فعدلت عن تعلّم الرقص الشّرقي، وتابعت تحصيلها العلميّ، وكانت من المجِلِّين في الجامعة.
رواية "غابة الضباب" كاتبها متمرّس، صنع من حبكتها الداخليّة المشوّقة عالماً خياليّاً غنيّاً بالرؤى والصفاء، منحنا متعة القراءة، رغم الواقع الأليم والمحزن، إذ تكمن في هذه الرواية، بالإضافة إلى الحبّ، كلّ انكسارات وآلام وفواجع هذا الوطن.
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
11/12/2025 1:48:00 AM
الشرع يتحدث عن الإرهاب، الأقليات، والتحالفات الدولية في أول مقابلة مع الصحافة الأميركية
المشرق-العربي
11/12/2025 7:35:00 AM
القطعات تفرغت بعد إغلاق صناديق الاقتراع لحماية المراكز والمخازن ونقل عصا الذاكرة وصناديق الاقتراع والمواد الانتخابية
المشرق-العربي
11/12/2025 3:00:00 PM
أظهرت النتائج الأولية غير الرسمية تقدّم ائتلاف "الإعمار والتنمية"، بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في عدد من المحافظات
اسرائيليات
11/12/2025 12:35:00 AM
سُلّطت الأضواء في تل أبيب على "الكابتن إيلا"، باعتبارها المرشحة الأبرز لخلافة أفيخاي أدرعي في المنصب الذي شغله منذ أكثر من عقدين.
نبض