السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

زعيم الحلم وزعيم الواقع

المصدر: "النهار"
حلم عودة بيروت (تعبيرية).
حلم عودة بيروت (تعبيرية).
A+ A-
 
الدكتور نبيل نجا
 
استيقظت كعادتها كلّ صباح في السادسة على صوت فيروز يغرّد من المنبه بأغنية "بحبك يا لبنان".
 
بالرغم من صغر سنّها نسبياً، فهي حالياً في الثانية والعشرين تعشق ريما صوت فيروز وتدندن دائماً العديد من أغانيها، وتعتبر صوتها ثروة طبيعية خاصة بلبنان دمغت تاريخه كالأرزة.
 
تقوم ريما برياضتها الصباحيّة في الحديقة الصغيرة مقابل منزلها الكائن في منطقة الخندق الغميق في "ممر الورد الأبيض"، حيث يمارس العديد من اهالي المنطقة فيه رياضة المشيّ أو الهرولة قبل الذهاب إلى عملهم.
 
البيت الذي تقطنه ريما مع أبويها وأختها، صغير نسبياً وبسيط، ولكنه تراثي العمارة، تكشف عليه البلدية كلّ عام للتأكد من عدم تصدعه ولمساعدة عائلة ريما على صيانته.
 
فالمجلس البلدي أصدر قانونا للمحافظة على الأبنية التراثية في بيروت من صندوق خاص يموّله بالإضافة إلى البلدية نواب العاصمة...
بعد أن تناولت فطورها الصباحيّ مع والدتها على الشرفة الصغيرة المطلّة على الحديقة، قررت ريما التخليّ عن سيارتها لأن لديها بعض الوقت وركوب ترامواي بيروت المجدد الذي أفتتحه الرئيس قبل عامين، واختارت الخط الأطول للاستمتاع بمنظر البحر قبل بلوغ مكان عملها الجديد في منطقة الغبيري.
 
لم يكن الانتظار طويلاً في محطة الترامواي الملاصقة للحديقة، لكن الوقت كان كافياً لتبني صداقة مع سيدة متقدمة في السنّ متقاعدة تستعمل الترامواي يوميا لزيارة إبنتها الوحيدة، لأنها تقوم بحضانة ابنها ذي العشرة اشهر، و"هذا العمل الجديد"، كما تقول يمنحها الإحساس بالراحة والسعادة، لأنها تعتبر أن دورها في المجتمع والأسرة لم ينتهِ، بل على العكس أصبح أكثر قيمة وهي تساهم بتربية حفيدها، وحتى أنها سراً تدعم ابنتها، فتشتري لها بعض الاغراض، لأنّ راتبها التقاعدي يفيض منه كلّ شهر أكثر من نصفه.
 
فقانون "تكريم الكبير" المصدّق من كلّ نواب الأمّة منذ خمس سنوات أعطى كبار السن في لبنان حقوقا يحلم بها سكان أرقى الدول في العالم.
 
ساعدت ريما السيدة المسنّة للصعود إلى حافلة الترامواي التي جلست في المكان المخصص للكبار، وهو عادة ليس بلاستيكياً كبقية المقاعد، بل مغلّف بالإسفنج والجلد ليرتاح الكبير أثناء سفره. 
فضّلت ريما المقطورة الصيفيّة، أي من دون سقف في هذا اليوم الربيعيّ اللطيف للإستمتاع بمنظر السماء الصافية وأغصان الاشجار الحاضنة للترامواي، ولحسن حظّها في هذا اليوم كانت الموسيقى في هذه المقطورة لأغاني فيروز... مما يمنحها الكثير من الراحة النفسيّة والطاقة الإيجابيّة قبل بدء عملها.
 
اتجه الترامواي نزولاً إلى ساحة الشهداء التي تعشقها لما فيها من جمالية التصميم... فقد ربط المهندس المصمم دور العبادة المختلفة المتواجدة في هذه الساحة بواسطة أقنية مياه كما في مدينة البندقية وأدخل مياه البحر بواسطة نواعير صغيرة إلى قلب الساحة وكانت تصدر خريراً ناعماً يطرب المارة كافة.
 
وقد أعطى هذا التداخل بين دور العبادة في الساحة جمالية مميّزة، مما دفع بمنظمة الأونيسكو الى إعطاء بيروت، وذلك بتصويت كل الاعضاء، لقب "مدينة التسامح والتآخي". كان يملك هذا المهندس المبدع الرؤيا المناسبة التي تستحقها العاصمة.
 
من ساحة الشهداء، انتقل الترامواي إلى عين المريسة التي كانت تعجّ بالناس من مختلف الأطياف، يمارسون الرياضة على مختلف أشكالها وأنواعها بإشراف أبوي رقيق من حراس البلديّة بلباسهم الأبيض الأنيق، حيث أنّ وجودهم وانتقالهم بهدوء يعطي المارة الراحة والطمأنينة.
 
ومن الجدير بالذكر أنّ على حارس البلدية اتقان ثلاث لغات على الأقلّ حتى يتمكن من مساعدة الأجانب الموجودين في العاصمة، كما أنّه يخضع لدورات تدريبية في العديد من عواصم العالم وذلك لاكتساب مهارات التواصل مع الآخرين.
 
يتجّه الترامواي جنوباً بموازاة الطريق الخاصة بالدراجات الهوائيّة التي يستعملها العديد من المواطنين للتخفيف من التلوّث والمحافظة على البيئة، وقد خصصت البلديّة العديد منها في نقاط كثيرة في العاصمة حيث يقوم من يريد باستئجارها بأسعار رمزية ويتركها في محطة الدراجات حين يصل إلى المكان الذي يقصده.
 
المحطة التالية كانت المنارة التي حولتّها البلدية إلى متحف بحريّ يضم كلّ أنواع الأسماك الموجودة على شاطئ بيروت، بالإضافة إلى الصدفيات على انواعها، كما يضمّ المتحف لمحة عن تاريخ الصيد البحريّ منذ أيّام الفنيقيين ورحلتهم الشهيرة لتاسيس مدينة قرطاج.
 
يعجّ هذا المتحف في مثل هذه الأيام بتلامذة المدارس في الصفوف الابتدائية، وقد حوّلت وزارة التربية أخيراً المناهج الدراسيّة من "تلقين التلميذ في الصف"، إلى الرحلات الاستكشافية في مختلف المناطق، حيث يرى بأمّ العين حضارة بلده ويعبّر عنها من خلال بحث يقدّمه ويسمح له بإبداء رأيه وتقديم الملاحظات والاقتراحات مما يساعد على بناء جيل يحب وطنه ويساهم في تطويره وتقدّمه.
 
يتجه الترامواي صعوداً في اتجاه صخرة الروشة التي باتت معلما مهمّا يميز العاصمة ويستطيع من يريد زيارتها، إمّا بواسطة مصعد يصل إلى مستوى البحر ويستعمل قارباً صغيرا مع دليل سياحي يخبره أسطورة الحبيبين الذين كانا يقطنانها منذ مئات السنين أو بواسطة التلفريك الذي يصل إلى قمة الصخرة للتمتع بمنظر مدينة الحب والرومانسية بخاصة ليلاً، فالإضاءة من داخل البحر تعطي الصخرة عظمة وجماليّة أخّاذة.
 
يكمل الترامواي طريقه نحو الرملة البيضاء الساحرة في مثل هذا الوقت من النهار، حيث الأمواج تعانق الرمل الناعم برقة عذبة.
 
واللافت اليوم أنّ عمّال البلدية يقومون بترتيب عشرات الملاعب لأن بيروت ستستضيف بعد شهر بطولة العالم بالكرة الطائرة الشاطئية التي كان لبنان بطلها منذ سنتين، حين كانت تقام آنذاك على شواطئ أمالفي كوست في جنوب إيطاليا.
 
يتجّه الترامواي إلى مستديرة السان سيمون، وهي المنطقة المعروفة في بيروت بتجارة الاسماك، وقد خصصّت البلدية مبنى على شكل قارب كبير للصيادين، الذين يعرضون يوميا خيرات ما اصطادوه في الليل، في هذه الحسبة التي حافظت على طابعها التراثي من الداخل، فكل صياد يزين مساحته إما بالشباك أو بقارب وبقناديل مضيئة. 
 
ويقصد الحسبة العديد من أصحاب المطاعم منذ ساعات الفجر الاولى ليحصلوا على أفضل نوعية، فبيروت باتت مشهورة بمطاعم المأكولات البحرية المميزة.
ومن السان سيمون إلى ساحة الغبيري، اتجه الترامواي وبدأت معالم هذه المدينة المميزة تظهر بوضوح.
 
فالبلدية في الغبيري لا تسمح بأن يتعدّى البناء الأربعة طوابق، كما تشترط على كل صاحب عمارة أن يغطي السطح بالقرميد الداكن، وأن تتدلى من أحواض شرفات الطابق الأول من كلّ مبنى الزهور البيضاء والحمراء التي حين تتداخل معها الأغصان الخضراء يتراءى لك بأنّها ترسم العلم اللبناني بطريقة شاعرية مميزة.
 
وصلت ريما إلى الشركة التي تعمل بها منذ شهر تقريباً في مجال التسويق والإعلان، ودخلت مكتبها مباشرة لأنّ المشروع الذي استلمته يعتبر مفصلياً بالنسبة لها، ولديها افكار كثيرة لا تريد إضاعتها، فعليها التسويق لقصر المؤتمرات المبني حديثاً في وسط العاصمة، وعليها التواصل مع الفنادق وشركات السفريات ومع وزارات الثقافة في العديد من الدول، فقصر بيروت "أمّ الشرائع" يضمّ قاعات كبيرة تستطيع استقبال الالاف، كما يحتوي على أهم التقنيات الحديثة في التواصل الرقميّ ويتصل بأهم الباحثين في العالم.
 
ولكن قبل البدء بعملها، كانت تنتظر زيارة المدير العام مع رئيس القسم الذي تعمل به. فللمدير عادة لا يحب أبدا التخليّ عنها وهي أن يقول لكل موظف لديه من الفرّاش إلى رؤوساء الأقسام، أن يقول له صباح الخير مع الابتسامة الأبوية الصادقة، وأن يتمنى له يوما سعيداً ومثمراً، وأن يقول له بأنّ بابه مفتوح في حال واجه الموظف أية مشكلة.
 
وصل المدير إلى مكتب ريما التي كانت منشغلة بترتيب ملفاتها وناداها باسمها فهو يعرف كلّ موظف يعمل لديه بالاسم، وقال لها ريما ... ريما... 
وكأنّ ريما لم تعد تسمع صوت المدير... ريما ... ريما ... كان الصوت صوت أمّها نعم أمّ ريما.... 
ريما قومي، يللا ... قومي رح تتأخري على موعد السفارة... صرلك خمس شهور ناطرة هل الموعد.... 
 
نعم… منذ أن تخرجت من سنتين وريما تبحث عن عمل من دون جدوى، فاتخذت القرار… نعم سأترك كل شيء وأرحل. سأترك كل ما أحب وأرحل. سأترك ذكرياتي، طفولتي ومراهقتي. أهلي وأحبائي... سأرحل. 
 
ويصدح صوت أمها مرة ثانية، قومي يا حبيبتي قومي أحسن ما تتأخري. الإشتراك مش ماشي ما بعرف ليه. ما في ميّ سخنة. شوفي كيف لح تخلصي حالك. رح سخنلك شوية ميّ على الغاز.

استيقظت ريما من حلمها على الواقع المرير الذي تعيش فيه، ارتشفت فنجان القهوة وهي تسمع أخبار الزعيم الذي استقبل وودع واستنكر وحزن من قلبه على دموع الأمهات الثكالى. هو حاول، ولكنه لم يتمكن، لأن أمم ما وراء البحار تحاملت عليه وأوقفت مشاريعه النهضوية الإنمائية.
 
وهذا صوت أم ريما مرة ثانية: لبستي التايور... خليهن يشوفوكي مرتبة. ريما حكيون فرنساوي وإنكليزي خليهن يعرفوا إنك بنت متعلمة. أنا تعبت كتير أنا وأبوكي لعلمناكن وكبرناكن. لازم عن جد يعرفو قيمتك.
 
عندها سألت ريما نفسها: أين أولاد الزعيم؟ ألم يقل لنا قبل انتخابه بأننا أبناؤه؟ ألم يفرش لنا الارض ورداً ويعدنا بتحقيق أحلامنا؟

تباً لهكذا زعيم حوّل حلمنا إلى أن يأتي اشتراك الكهرباء حتى نستطيع تأمين مياه ساخنة للاستحمام قبل الذهاب لتقديم أوراق الهجرة على أبواب السفارات.
 
تبا لزعيم نسي قسمه وحوّل شعبه إلى متسوّل منبوذ في شوارع الدول الأخرى.
 
تباً لزعيم يعتبر حماية صورة له في الشارع أغلى من دماء محازبيه، وقتلهم لتبقى صورته مرفوعة لا يرفّ له جفنه. 
تباً لزعيم يحمي حيتان الأموال، ناهبي كدّ وتعب وعرق كلّ عامل فنى عمره في وطنه أو في بلاد الاغتراب لانه استفاد هو والمصفقين من حوله من السمسرات الرخيصة.
 
تبا لزعيم نسي أنه في يوم من الأيام سيرحل تاركا وراءه كل ما بناه بالظلم والكفر والتعدي.
ولن يبقى منه إلا ذكراه النتنة. 

توضيح
لا يٌقصد بالزعيم شخصية معيّنة، بل هو يرمز إلى كلّ زعيم من زعماء القبائل التي تكوّن وطننا الجريح، المتناحرة ظاهراً والمتفقة سراً على شعبها المقهور، المذلول والغارق في سبات عميق.

بيروت في 11/12/2020
د. نبيل نجا 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم