"جيواني فالكوني" المُنتظر...

علي حمدان
 
بعتُ سيارتي قبل ثلاثة أعوام ولم أشترِ أخرى؛ عناء البحث عن موقف في زواريب بيروت وأكلاف الصيانة والوقود... وداعاً. أستمتع الآن بالقراءة والسَّرَحان في "السرفيس" أوقات الزحمة، أطربُ لما يطلبه المستمعون، التائهون أمثالي، من أغنيات على الراديو، أتأمل ما تبقى من عمارة جميلة من النافذة، أُناظر وجوه المارة، المتعَبة غالباً، وأمشي، أسعدُ كثيراً بالمشي بلا هدى.
 
الحياة بدون سيارة تحرّر ومتعة فعلاً، والتسكّع في أزقة مدينة تحبها هو الهدف الأسمى لهذه الحياة، دعك ممّن يجعلون الأمور أكثر تعقيداً، ويسعدني أني أيقنت هذا قبل أن ينال التوعّك مني حارماً إيّاي مسرة المسير دون وجهة، المسير كفعل فرح لا كوسيلة للتنقُّل، ورغم أني لست من المشدوهين بهبَّة "مدربي الحياة" دعاة الأفيونية، أو "إيجابية" كما يسمّونها، ولا أسرد قصتي هذه لأخلُص الى ابهار أحد بأن الصحة أم النِّعم، ثم أنتشي لكوني ألهمته بألف باء البديهيات! إلا أن ما ألمَّ بي نفسياً- جسدياً قد يكون - ببعده السياسي تحديداً- صافعاً. صافعاً الى حد الإلهام.
 
مع حلول العام الجاري، أتممتُ عامين من العناء بين صالات الانتظار دون أن أحظى بالتشخيص الدقيق لمسبّب أعراضي. كل الفحوص سليمة، يقول ذوو الأردئة البيضاء، وكل ما فيَّ عليل، تخبرني صباحاتي الثقيلة. إلا أنّ ما كان عصياً على الطب قد فسرته الأكاديميا! فالعنف ابن التسلط؛ ينظِّر الدكتور مصطفى حجازي في "التخلف الاجتماعي: مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور" - الكتاب الذي أهدتني إياه صديقة، فأهداني الى شيء من ذاتي. ويتبحَّر حجازي بالعدوانية كوليدة بديهية للظلم في البيئات المسحوقة، طارحاً إياها بشقَّين، عدوان وتعنيف نحو الخارج يتمثل معنوياً بالشتم والسخرية، ومادياً بالعبث بالممتلكات العامة والضرب وغيرها، يقابله عدوان داخلي، نحو الذات، يتمثل بسلوكيات تدميرية يعاقب بها المواطن المقهور نفسه لعجزه عن الاحتجاج والتمرد وإحداث تغيير في واقعه البائس، فيحكي مأساته من خلال المرض والكسل، وهما السمتان الاكثر التصاقاً غالباً بالمجتمعات المتخلفة، وإن كانتا نتيجة الفقر وسوء التغذية أحياناً، إلا أنهما سلاحين نفسيين بآمتياز، يثير بهما المقهور حفيظة قاهره الأول، رأس المال، المتجسد برب العمل، وسائر أدوات الاذلال والسطوة من مؤسسات وأحزاب واشخاص وغيرها، بدوافع لا واعية، ويعبر من خلالهما، أي الكسل والمرض، والتفسير دائماً لحجازي، عن الاستسلام وعدم ايمانه بجدوى السعي وبذل الجهود ما دام طريق التغيير مسدوداً مسدوداً مسدوداً.
 
المرض والكسل، وشكوانا الجسدية عموماً، نحن ماضغي القهر، يخفون شكوانا الوجودية إذاً. والدواء لا يُجدي حيث تفشِّي اللا-إنصاف. ولا رجاء لنا، نحن، الصامتين كالبغال عن عبث البغال بنا، إلا بـ"فالكوني" مُنتظر يختتم غيبته الكبرى بالظهور ونصرة المقهور، يحيي القضاء وهو رميم، يفعل كما فعل جوفاني فالكوني، القاضي الإيطالي الذي أدرك أن القضاء انعتاق من الدنيا لا العكس، فأصدر الأحكام بحق 360 من الفاسدين، من بينهم 19 من أبرز رؤوس المافيا الحاكمة امثال من نُسحل من بيوتنا سحلاً عند ذكر أسمائهم في تغريدة هنا، فغيَّر وجه إيطاليا الى الأبد وإن على حساب أطفاله الذين قرر وزوجته عدم إنجابهم منذ البداية، مجنبان إياهم اليتم، إذ أيقنا أن مافيا "كوزا نوسترا"، التي انتقمت بتصفيتهما عام 1992، لن تترك من تجرأ عليها حياً.