الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

التأمّل "فوتوشوب" المزاج!

المصدر: "النهار"
التأمّل (تعبيرية- لوحة لإدوارد هوبر).
التأمّل (تعبيرية- لوحة لإدوارد هوبر).
A+ A-
علي حمدان

نعم، التوجه شرقاً هو الحل. لقد أصبح الشرق- مسقط الحكمة - وجهة إنقاذ لما هو أهم من الاقتصاد بالنسبة إلينا جميعاً: النَّفَس. فالصيام عن الطعام والمياه لعدة أيام متواصلة لن يؤدي إلى الموت. لكن انقطاع النفس لدقائق قليلة سيفعل لا محالة. التنفس الصحيح العميق الذي يملأ الرئتين بأنسام الحياة ويضخ الأوكسيجين داخل الأوردة والخلايا والأنسجة لم يعد متاحاً، فالصدور انقبضت والأنفاس انحسرت مذ هجرنا الحقول الفسيحة وسكنّا الشاشات. مع رقمنة الحياة التي حدت من الحركة الجسدية وجعلت انشراح الصدر بأنفاس ملأى عزيزاً، وكورونا وما رافقها من تضاؤل للآمال والأموال بعد 17 تشرين وتفجير المرفأ وكل ما نعيشه، وجدت نفسي مؤمناً بضرورة الطرح عن التنفس التأملي، ابن الشرق البار، لما كان له من تأثير تحولي على حياتي، لعلي بالكتابة عنه أكون سبباً في استقطاب احدهم إلى "حزب النّفَس"، فللحديث أو الكتابة عن الأفكار "تأثير التموج"، يقول أبيقور، وهو أشبه بتموجات ماء النهر المتسعة رقعةً حول مرمى الحجر.
 
بمعنى آخر، إن ثرثرة العجوز المكسيكية أمام مصعد المبنى الذي سكنتَه أثناء دراستك الجامعية في إحدى ضواحي نيويورك عن سر تحضير برغر اللحم اللذيذة في المطعم الشهير حيث عملَت لسنوات قبل تقاعدها، قد تكون ذات فائدة لصديقك الافتراضي في دمشق، الذي قرأ تغريدك للوصفة في تويتر بعد عشرين عاماً من حصولك عليها لمجرد أنك استذكرتها، فحضرتها، ثم استسغت نشرها مع صورة الطبق! فقام هو بتطويرها لتصبح علامة تجارية لامعة تعلو سلسلة مطاعم يمتلكها تبدأ بسوريا مروراً باسطنبول فدبي، الكويت، الرياض وحتى مراكش. وقصة الجندي الأميركي الذي أحب فتاة من "غير محددي الجنسية" المعروفين بـ"البدون" خلال سنوات خدمته العسكرية في قاعدة عريفجان في الكويت قد تلهم الضابط المسؤول عنه، فيسردها في عمل روائي بعد تقاعده، وينتشر انتشاراً واسعاً، فتجري الـ"سي إن إن" مقابلة مع بطلة العمل بعد أن أصبحت مواطنة أميركية تعيش مع زوجها في ولاية بوسطن لينفتح السجال حول قضية البدون في الإعلام التقليدي والرقمي وفي الأروقة الدبلوماسية ومنظمات الإنسانية تباعاً، ثم تصدر الحكومة الكويتية تحت ضغط الرأي العام واللوبيات مراسيم التجنيس لحوالى مئة ألف - بحسب منظمة هيومان رايتس ووتش - من التائهين المنسيين في صحراء الإمارة الإنسانية، والعزيزة على لبنان، وعليه، نكتب هذا المقال "المحاولة" عسى أن ننجح في استدراجك أيها القارئ العزيز - العزيز بمعنى النادر بالدرجة الأولى لندرة القراء عموماً، ثم العزيز بمعنى الحبيب طبعاً - إلى اختبار ثلاثين دقيقة من التنفس التأملي، ثلاثون فقط، تبدأها في زحام الهند، وتنتهي بك وسط أنغام الأكورديون في أزقة روما الأنيسة... رحلة سعيدة!
 
التأمل فوتوشوب المزاج. سوف تدرك لحظة فتح عينيك عند إنتهاء الجلسة أن شيئاً ما في علاقتك مع مكونات الحياة من حولك قد تبدل. التأمل هو المكثف لشعورك الجميل تجاه المحيط، فيتحول إلى حاضنة تأنس بها وتستشعرها بفرادة غريبة. نختصر فلسفة نسيم طالب الغذائية – للبناء عليها لاحقاً- بسؤال من شأنه أن يجيب على مئة: لماذا نضع على موائدنا شراباً أو طعاماً لم يكن على متاحاً على مائدة أسلافنا قبل ألف عام؟ يتبع البروفسور طالب هذه الاستراتيجية كحمية، باعتبار أقدمية المنتج الغذائي ضمانة لسلامته من عبث الملوثات والمبيدات والملونات والمكونات المصنعة أو حتى التعديلات الجينية الضارة، فيصبح العنب، سواء كفاكهة أو كنبيذ، مشروعاً، والعصائر والمشروبات الغازية مستثناة. اللحم المشوي مطابقاً لشروط السلامة ومسموحاً، فيما النقانق والمرتديلا المصنعة مستبعدة. بهذا المعيار، يُعتبر الهواء، بالرغم من أنه بات موشوماً بالسموم، مصادقاً عليه، لكن بنسخته البكر التي تبلورت قبل الميلاد كمهارة بشرية أولى، في عهد الصينيين والمصريين القدامى تحديداً: التأمّل. كل أنواع التأمّل تؤدي إلى روما ما دامت ترتكز على وضعية الجلوس أو الاستلقاء، طريقة التنفس، والتعامل مع الأفكار. الكتب الورقية حول كيفية التأمل كثيرة، والرقمية كذلك، الحلقات الصوتية، قنوات اليوتيوب، وحتى التطبيقات وغيرها من المصادر المجانية كلها متاحة لإرشادك، عليك فقط أن تأذن لنفسك بنصف ساعة خارج القطيع لتبدأ. 
 
إدمان المخدرات، المشروبات الروحية، الألعاب الإلكترونية، فوضى العلاقات والشراهة في النشاط الجنسي، وغيرها من السلوكيات اللاهثة خلف الاكتفاء وإن كان عابراً، والسعادة ولو آنياً، بإمكانك استبدالها بهروب أسلم، ذي أمد أطول، وفعالية أقوى؛ التأمل. هو استراتجية الدعم النفسي والذهني الذاتية المثلى بصفر كلفة. هو المفعل للعقل الواعي مقابل اللاواعي، فيغدو الأول قبطاناً للرحلة، يدخل قمرة القيادة، يُبطل دور الأخير المتمثل بخاصية القيادة المؤتمتة والمتحكمة أغلب الوقت بإدراكنا. هو البهجة، السلام الداخلي، الاتزان، الهدوء، الطمأنينة، الهناء واللائحة نهر فيّاض... شخصياً بدأت ممارسة التأمل بشكل يومي قبل ثلاث سنوات. أصبح العادة الوحيدة التي تفوق التسكع والقراءة أهمية في سلم أولوياتي الآن. أسميه "أم النعم"، وأتمناها للجميع. لن أستفيض بسرد فوائده أكثر لأني أؤمن بأنه كالهدايا، يدرك قيمتها من يفتحها. 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم