عن ظهور رغد صدام حسين ومشهديات تمجيد الديكتاتورية

علي شاكر
 
 
المشهد الأول
تناقلت وكالات الأنباء العالمية في الشهر الماضي نبأ اسقاط آخر تمثال متبقٍ على أرض اسبانيا للجنرال فرانكو، الديكتاتور الشهير الذي حكم البلاد بالحديد والنار لمدة ست وثلاثين سنة، انتهت بموته عام 1975، وتسبّب عهده بسقوط عشرات الآلاف من الضحايا ومصادرة الحريات ... وسائل الاعلام الاسبانية وصفت إزالة التمثال بالحدث التاريخي الذي كلّل مسيرة طويلة لتقييم حكم الطاغية، وجاء متسقا مع تشريع صدر عام 2007 أقر معاناة ضحاياه الأبرياء، عُرِف بقانون " الذاكرة التاريخية" – Law of Historical Memory.
 
المشهد الثاني
قبل أكثر من خمس سنوات، ظهر المحاور المصري الشهير مفيد فوزي، جالساً في شقة المطربة لطيفة التونسية المطلة على نيل الزمالك، منصتا لغنائها بالفرنسية ضمن برنامجه "مفاتيح"، ثم خطر له أن يسألها عن لغات أخرى تجيدها، فأجابت انها درست الألمانية لسنوات عندما كانت صغيرة في تونس ... فوزي، المتربّص دوما بأدق التفاصيل، استغرب اختيارها اللغة الألمانية تحديدا، وسألها عن السبب، فقالت: "كان والداي معجبين بالدور الذي لعبته ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية!". صمت فوزي للحظات، ثم استمر في حوار تخللته القهقهات الكثيرة وأغنيات عن الحب والأشواق، أدّتها لطيفة وكأنها لم تبح بما يستدعي المراجعة.
 
المشهد الثالث
عقب ترشّح فيلمه "القضية 22" أو The Insult للقائمة القصيرة للأفلام المتنافسة على أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وقبل فترة قصيرة من توجّه الممثل عادل كرم مع أسرة الفيلم الى الولايات المتحدة لحضور حفل توزيع الجوائز، ظهر في حلقة من برنامجه التلفزيوني على شاشة الـ MTV اللبنانية، مستضيفاً الممثل السوري أويس مخللاتي في حوار ساخر، تخلّله سؤال عن أمنيات الأخير الذي أجاب مزهوّاً بنفسه: "كنت أتمنى فقط لو أن هتلر كان عربيا!"... لا أحد يستطيع أن يؤكد إذا كانت الدعاية المجانية للنازية في برنامج كرم السبب وراء عدم فوز فيلمه بالجائزة رغم مراهنة غالبية النقاد عليه.

المشهد الأول استدعى المشهدين الآخرين في ذاكرتي رغم مرور سنوات عدة عليهما، ولم يكن بوسعي تجنّب اسقاط دلالات الثلاثة على الظهور الإعلامي الأخير لرغد صدام حسين على شاشة قناة "العربية"، واللغط الذي أثاره على مواقع التواصل الاجتماعي... المشكلة هنا ليست في ضيفة الحوار التي لعبت الدور المنوط بها، كما باتت عادتها في كل مرة، بدءا من ظهورها الأول على شاشة ذات القناة بعد فترة قصيرة من الغزو الأميركي للعراق وفرارها الى الأردن.
 
ابنة الرئيس (الهارب حينها) بدت سعيدة بتحرّرها من قيود الإقامة الجبرية التي فرضتها عليها الأسرة بعد قتل زوجها المارق بطريقة وحشية وتيتيم أطفالها على أيدي رجال القبيلة، بأمر من الرئيس وبمشاركة شقيقيها عدي وقصي... دول المنطقة وقتها كانت تحتفي بإسقاط طاغية بغداد، ولم تجد أفضل من ابنته كي تضفي شرعية على قلب نظام الحكم في العراق أمام الرأي العام العربي، فالوحشية التي عامل بها ابنتيه وأطفالهما دليل دامغ على استبداده.
 
أدلت رغد بدلوها يومها، وانهالت على العشيرة الرئاسية بأقذع الأوصاف، لكن وجهها امتقع ورفضت التعليق عندما واجهها الإعلامي الأردني سعد السيلاوي بوثيقة رسمية تحمل توقيع والدها وموافقته على تصفية زوجها وأقاربه.
 
كثير من المياه جرت تحت الجسر خلال العقدين الفاصلين بين الظهور الأول والأخير لابنة الرئيس السابق على شاشة "العربية"، شهدت اتخاذ رغد قراراً بلعب دور الوريثة، ورسم ملامح جديدة لشخص وعهد والدها وتحويلهما لعلامة تجارية لها ولأسرتها المباشرة، رغم رفض والدتها ساجدة طلفاح وباقي شقيقاتها لتصرفاتها، بل وقيل مقاطعتهن لها... دفعت رغد بإحدى بناتها لكتابة مذكرات عن الجد الراحل، صدرت قبل سنوات قليلة عن ناشر مجهول، وتم الترويج لها إعلاميا بكثافة في دول المنطقة التي قرّرت استخدام ارث صدام حسين كسلاح في نزاعها المستعر مع ايران، وتحويل الطاغية الى أسد السُنة وشهيد العروبة ومُحطِم آمال الفرس، الخ، فالعوام كعادتهم لا يكترثون بمراجعة فصول التأريخ، أو الاطلاع على ما هو موثق ومنشور من اتخاذ صدام إيران حليفا استراتيجيا عقب غزوه الكويت، وايداعه أراضيها مقاتلات السلاح الجوي العراقي التي قامت بمصادرتها ورفضت اعادتها بعد انتهاء عمليات "عاصفة الصحراء".
 
كثير من ممجدي صدام حسين اليوم هم من المراهقين العرب الذين لا يعلمون شيئاً عن قراره بمنح إيران أراضيَ عراقية بعد انتهاء الحرب معها، أو الشراكة التجارية التي جمعت بين عدي صدام حسين ونجل رفسنجاني، ونتج عنها اجتياح البضائع الإيرانية أسواق العراق طيلة عقد التسعينات وتهريب النفط العراقي عبر الحدود معها. هم لا يدركون أيضا أن ضحاياه من الطائفة السنيّة لا يقلّون عن ضحاياه من الشيعة، وتشمل القائمة الطويلة الأكراد والكويتيين وآلاف من أبناء العشائر السنية العراقية، بل وحتى ابن خاله ووزير دفاعه العتيد عدنان خير الله. الغالبية لا تعلم، أو لا تبالي، أن نفوذ إيران المترامي وهيمنتها على مقاليد السلطة في عراق اليوم سببهما حسين وسياساته الهوجاء، الأمر الذي حاولت شرحه من خلال حوارات مفصّلة مع شرائح مجتمعية وعقائدية عربية مختلفة في كتابي "صدام وأنا، ومتلازمة ستوكهولم".
 
على الجانب الشخصي، سعت رغد من خلال الدوائر المحيطة بها وبعض الإعلاميين لإرضاء جمهورها العربي بتقديم خطاب يداعب رغباتهم، ويقدم صورة رومانسية عن أب رقيق لطيف ومسالم، فهي تعلم أن رواياتها لا تنطلي على العراقيين الذين أشبعوها هجوماً وسخرية، لكنها لا تبالي طالما أن ماركتها التجارية تبيع في أسواق أخرى لا تقرأ ما نشر من كتب باللغة الإنكليزية عن شهادات المقرّبين من صدام حسين، كان من أبرزهم طبيبه الخاص، الجرّاح والفنان التشكيلي علاء بشير، الذي ذكر في كتابه The Insider: Trapped in Saddam’s Brutal Regime (شهادة مُقرّب: الوقوع رهينة لنظام صدام الوحشي) قيامه ذات مرة بأجراء عملية صغرى لأم عدي دون أن يعطيها ما يكفي من المخدّر، فلمّا لاحظ ألمها، قالت له: "لا عليك دكتور، من تحتمل العيش مع صدام، تهون عليها كل الأوجاع!".
 
كتاب آخر تم التعتيم عليه، هو مذكرات صديقة رغد السابقة والناشطة النسوية لاحقا ومؤسسة منظمة Women for Women (نساء من أجل النساء) زينب سلبي التي كان والدها طيّار الرئيس الخاص، بعنوان Between Two Worlds (بين عالمين) عن قيام صدام بالتحرش ومعاشرة زوجات مساعديه وأصدقائه، وكذلك شهادة سلمى أبو طبيخ، زوجة سفير العراق السابق في اسبانيا والبعثي القديم محمد الجابري عن الثمن الذي دفعته مقابل أن يوافق الرئيس على اطلاق سراح زوجها بعد اعتقاله وتعذيبه بتهمة لا يعلمها، بعنوان The Kiss of Saddam (قبلة صدام) بالإضافة الى عشرات الشهادات الأخرى عن وقائع التعذيب والاغتصاب والقتل في عهد صدام حسين.
 
لا أستطيع لوم القارئ العربي الذي حُجِبت عنه تلك النصوص على تأييده لصدام، كما لا أستطيع أن أدين جمهور وسائل التواصل الاجتماعي العريض الذي يستقي معلوماته مما يُنشر عليها ويبني أحكامه وفقها، فتلك حدود معرفته وادراكه، لكنني لا أستطيع إيجاد تبرير لمن يقرأ ويعلم، ثم يقرّر واعياً الانحياز لطاغية مدان بجرائم ضد الإنسانية ومذابح جماعية... تناولت ازدواجية تلك الشريحة في مقال لي عام 2018 بعنوان "عن ياسر عرفات وثقافة "يبقى رمزا!""، جاء فيه:
 
"للمثقف العربي المعاصر قدرة عجيبة - تكاد تكون حكرا عليه - على رفع شعارات رنّانة والدفاع عن قيم سامية، وفي ذات الوقت، ودون أدنى شعور بالحرج أو الخجل، تمجيد شخوص وقيادات هي نماذج حيّة لانتهاك تلك القيم والمبادئ، فكم من دراسة أجريت عن عهد ديكتاتور ما بزعم الرصانة والموضوعية، أو حلقة نقاش أو حوار أو مقال أو كتاب منشور، جنح أصحابها الى ترديد عبارات مثل "له ما له وعليه ما عليه!"، التي لا أفهمها، هل هي رخصة بالقتل أو تشريع للجريمة لمجرد أن مرتكبها قد فارق الحياة أو انه بقي في موقع السلطة لزمن طويل؟ أين حق الشعوب إذا في المساءلة والمحاسبة وتقييم ما حدث لها كي تتعّظ الأجيال القادمة من عبر الماضي ولا تُكرّر الوقوع فيها المرة تلو الأخرى؟
 
البعض يردّد مقولات تلعب على أوتار عواطفنا الدينية كشعوب مشرقية مثل "الميت لا تجوز عليه الّا الرحمة"، أو "نطق بالشهادة قبل موته"، أو "اذكروا محاسن موتاكم!"، على الرغم من أن الحديث الأخير غير صحيح، بل منكر، وبالإمكان الرجوع الى الكتب للتأكّد من الأمر، لكن ما لي ورحمة الخالق بأرواح الأموات أو تعذيبه لها؟ ذلك شأنه هو وليس شأني أنا ... ما يهمني هو الحكم على الأفعال، وادانتها ان كانت جرائما"، ذلك ما فعلته اليابان التي لم تجد حرجا في الإقرار بممارساتها العدوانية والاعتذار عنها، ثم مضت قدما لبناء نفسها من جديد.
 
للأسف الشديد، الثقافة التي تفرزها "له ما له وعليه ما عليه” لن ينتج عنها سوى تفريخ مستمر للطغاة، وهو ما نراه في عراق اليوم على سبيل المثال، لا الحصر، فتخيّلوا معي لو أن الألمان قالوا عن هتلر، أو الطليان عن موسوليني: “تبقى زعيما!” أو "رحمه الله!" أو "شهيد الآريين" الخ، كم حروب كانت ستعصف بأوروبا والعالم لو لم تتعلّم شعوب القارة العجوز من أخطائها؟ فمتى نتعلّم نحن من أخطائنا؟.
 

مهندس معماري ومؤلّف عراقي/ نيوزلندي، صدر له A Muslim on the Bridge ورواية كافيه فيروز وكتاب صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم، بالإضافة الى العديد من مقالات الرأي والمراجعات الفنية والأدبية والترجمات المنشورة باللغتين العربية والانكليزية في صحف ومجلات العالم العربي والولايات المتحدة وبريطانيا ونيوزلندا حيث يقيم ويحمل عضوية اتحاد الكتاب النيوزلنديين، وهو أيضاً مدوّن في موقع Arcade التابع لجامعة ستانفورد الأميركية.