"عَذُبَ الماءُ واكْفهرَّ الإناء"...

 
كتب باسم عون 
 
قد يتساءَل المُتَبَحِّر في الشؤون الأدبيّة اللبنانيّة، عن الأسباب التي حَدَت بأدبائنا الكبار من رَعيلِ النهضة الأدبيّة الأولى، إلى اتّخاذِ المواقف الحذِرة حينًا، والمُتَبَرِّمَة أحيانًا من المؤسّسة الكنسيَّة، كي لا نقول من الكنيسة بِرُمّتها.
ولمّا كانت الشّعوب تفتخر بأدبائها ومفكّريها، فإنّ ما ذكرتُهُ من المواقف السلبيّة قد يمرُّ عند العامّة مرورَ الكرام، أو قد يُواجَهُ بالشَّجْب والاستنكار، عَمَلًا بالقول المأثور: "العين لا تعلو على الحاجب"؛ أو بِرًّا بتقاليد الآباء والأجداد من حُماةِ الدّيار وحرّاس الآلهة... إنّما هذا لن يمُرَّ في قاموس المثقّفين من روّادِ فكرٍ، وحَمَلةِ أقلامٍ...
 
ورُبَّ معترِضٍ بَريءٍ على ما نقول... فلا بدَّ إذًا من الشَّرح...
* فلنبدأ بسيّد البيان وأمير اللّغة والتجديد، الأديب أحمد فارس الشدياق، وهو من الأدباء الذين لا يُشَقُّ لهم غُبار في ميدان الأدَب، ولَعَلَّه أوَّل الروّاد في نهضتنا الأدبيّة بعد هجوعٍ دام عدّة قرون.
 
وقصّة هذا الـ"أحمد" بين الموارنة معروفةٌ. فإنّ فارس الشدياق –وهذا اسمه الحقيقيّ– قد راعَهُ ما حدث لأخيه أسعد، تلميذ عين ورقة، على يد البطريرك المارونيّ، غداة اعتناقه للمذهب البروتستنتيّ. فأسعدُ هذا قد عوقِبَ على فعلته، وزُجَّ به في قبوٍ من أقبية قنّوبين، حيث لَقِي حتْفَه مُضْطَهَدا ذليلا ً. فما كان من فارس إلّا أن طَفَرَ في بلاد الله الواسعة، ناشرًا رايات عِلمه وأدبه وثقافته، في الأمصار الإسلاميّة والأوروبيّة، وصولًا إلى الأستانة، فحطَّ الرِّحال فيها مبجَّلًا مكرّمًا. وهناك أسّس صحيفة "الجوائب" المشهورة، الذائعة الصّيت. وما لبث أن اعتنق الإسلام متّخذًا اسم "أحمدَ". وبعد حياةٍ حافلةٍ في مجال الفكر والأدب، وافَته المنيّة في أرض غربته ليعودَ من ثمَّ إلى الأرض التي نبذَتْهُ، جثّةً.
 
** وإذا ما انتقلنا إلى "كافِرُ الفرَيْكة" أمين الرّيحاني، عفوًا، فيلسوف الفريكة، وهو من واضعي حجر الأساس في الرابطة القلميّة، هذا الرائد الآخر من بلادي، الذي رُميَ بالكفر والزّندقة، لا لشيءٍ إلاّ لأنَّه لم يَسْتَسِغْ تلك الطقوس البالية، والتقاليد الدينيّة السمِجة التي حبسَتْ في بَوْتقتها أجيالًا من المؤمنين الوَرِعين، فباتوا "وثنيّين" على دين المسيح ليس إلّا. 
 
فهذا العِمْلاق الذي طالما مجّد روح الشّرق، ناقدًا الغرب المادّيّ، جُعِلَ عَوْرَة بين أبناء مِلَّتِهِ، لأنَّه أرادَ الدّخول إلى عالم يسوع من غير الباب الذي أُريدَ له الدخول منه... وَحَسْبُكَ أن تغوصَ في رِحابِ "قلب لبنان" لِتَلمُسَ بروحك مقدار القداسة في تطلّعات الريحاني، وإِشراقاته في عالم الروح. ناهيك عن نُبلٍ لا يُوصَف، تَجِدُهُ أينما قلَّبْتَ الطَرْفَ في صفحات "الريحانيّات"...
*** أما جُبران خليل جبران "نبيُّ" الأدب المهجريّ، فهذا حديث آخر.
 
فإنّ ابن بشرّي البارّ قد طوى غربته يَعتَصِرهُ الحنين إلى بلدِ الكنائِس والمحابس، حيث أجراس المساء لا تنفكّ في صلاة تسبيحٍ إلى الخالق لا تنتهي.
هذا النبيّ الثائر الذي جَرّد يسوع من كلّ "اليسوعيّين"، فكتب "يسوع ابن الإنسان" يوم كادت الأديان تضع يسوع في مواجهة الإنسان. ولكنّه لم يستطع التوفيق بين يسوع و"مؤسّسته" على الأرض، فانهال على المُرائين بِلَعَناتٍ مُلتهِبة، تَجلَّت في "يوحنّا المجنون"، و"خليل الكافر"، و"الشيطان" وغيرها...
وقد ذُكِرَ أنَّ اثنين من القساوسة قد تكبّدا عناء السفر إلى باريس، حيث كان جبران يومذاك، علّهما يُثنيانه عن الاستمرار في طباعة كتابه "الأجنحة المتكسّرة" الذي يُدينُ في ما يُدين "مطرانًا تسير قبائحه في ظلال الإنجيل". ولكنّ جبران لم يمتثِل رغم التّلويح بالحُرم الُمقدّس.
 
**** أمّا عن اللبنانيّ الصّامد، شيخ أدباء لبنان المارد، مارون عبّود ابن عين كفاع، فحدّث ولا حرج...
فمارون عبّود قد ذهب بعيدًا في تحدّي السلطات الدينيّة؛ كيف لا وقد أسمى ابنه البكر محمّدًا، نكاية بالطائفيّين أينما وُجدوا. فإنّ هذا التلميذ النّجيب، الذي زرع الحسرة في قلب والده لأنّه لم يرضخ لرغبته في أن يصبحَ كاهنًا كَجَدِّه، ذهب أبعَد من ذلك بكثير. فمَن قرأ أقاصيصه الانتقادية من مثل "دايم دايم"، أو "عظة بونا اسطفان"، أو "حقًّا قام ولكن بلا صيام"، لأدركَ بِما لا يقبل الشّك، مدى ابتلاع وهضْمِ الكاتب لعادات رجالات المؤسّسة الدينيّة، ومدى تقديره لنزاهة وسموِّ وعبقريَّةِ البعض منهم.
 
وأذكر ممّا قرأت له، الخوري المشاكس في قصّة "فارس آغا"، ما جعل حتّى الشيطان يستحي من أعماله. أو ذاك الخوري الذي تناول "المعلوم فوضعه في جيبٍ يتَّسِعُ لخليج جونيه بكلّ قواربِه"، والكلام هنا طبعًا لمارون عبوّد... ولكن، رغم ذلك، في طيّات أقاصيصه وأخباره، ما يَشي بإيمانِهِ العميق بالرَّب يسوع وبالكتاب المقدس...
 
***** ولمّا كُنّا في أجواء الطّقوس والعبادة والصّلاة على طريقة أدبائنا الميامين، فلا بدَّ من الكلام على "ناسك الشخروب" ميخائيل نعيمة، ابن بسكنتا وربيب صنّين... فإنَّ هذا الناسك المتوحِّد في صومعة الأدب، لم ينبس -وعلى مساحة مؤلّفاتهِ كاملة- بكلمةٍ واحدة لا تنضحُ بالسّلام والمحبّة والوئام.
ومن المُلفِتِ للنّظر أنّه، وهو ابن المدارس الإكليركيّة منذ صغره، قد أفْرَدَ جناحيه لريح الحرّيّة، فطار يلاقي مسيحَهُ في وجوه النّاس أجمعين، في أقطار العالم الأربعة. وقد كتب كتابه "المسيح" بقلمِ إنسان قد راح بعيدًا في مشوار المصالحة مع الذّات. ولست أرى بأنّ المسيح قد جاء إلى الأرض إلّا من أجل هذا... وقد بَلَغَتْ بِنُعيمة حالة التصوّف والإيمان الكونيّ والأخوّة الشاملة، ما نقع عليه في كتابه "مرداد"، الذي هو -كما أسماه المؤلِّف- "منارة وميناء"...
هذا الناسك الشخروبيّ الهوى، لم يكن من دُعاة ممارسة الطقوس الدينيّة، أو التعّبد التقليديّ، بل كان نَسْرًا عملاقًا مُحلِّقًا في عالم الروح...
حسنًا، وماذا بعد؟... 
 
يبقى الكثير الكثير من الأدباء الذين كانت لهم صولاتهم وجولاتهم في هذا الموضوع، والذين لا مجال لذكرهم خوفًا من الإطالة...
ويعود السؤال فيُلحّ في الضّمائر: ما الذي جعل عمالقة الأدَب اللبنانيّ ينأون بأنفسهم عن طريق الممارسة التقليديّة لإيمان كنائسهم المشرقيّة؟ أم أنّ هذا هو شأن المثقّف الحقيقيّ العَصيّ أبدًا على التدجين؟!
 
يبقى هذا السؤال برسم المؤسّسات الكنسيَّة من الآن وحتّى انتهاء الدّهور...
ولمّا كان يسوع مُشْرِقًا جليًّا في أعمال هؤلاء الأدباء ممّن ذكرنا، حَقَّ لنا أن نسأل –ويسوع هو ماء الحياة الأبدية– أتراهُ قد صحّ فينا القول المأثور: "عَذُبَ الماءُ واكْفَهَرَّ الإناء"؟...