على ذمّة التدشين

 رفع يونس إيقاع ركضِه حين صار الجسر الجديد على مرمى حَجَر. أوهم الحارسَ الرابض هناك أنه سيتحدّى المنع وسيقفزُ فوق السلسلة ويصعد الجسر. لكنه انزاح آخرَ لحظة كعادته، والعادة طبيعة ثانية يصنعها المنعُ. مضى يركض برشاقة وقد ارتسمت البسمة على وجهه المحاط بخصلات شَعر متدلية كالنوابض. تأمله الحارس مشدوها متجددَ المفاجأة. مفتولا، محبوك العضلات كان صدرُه ينفر من تحت زيه الرياضي نفور الرجولة والعنفوان. لو كان جسر الطلبة الجديد مفتوحا لرقاه ثلاثا أو أربعا، قفزةً أولمبية تلو قفزة، لكنّ الجسر الجديد ما زال مغلقاً من جانبيه منذ شهور، وعليه حارس طيلة اليوم. الجسر الجديد شُيِّد فوق سكة القطار لمرور الطلبة بسلام وأمان إلى المدينة الجامعية. لكن ليس بعد، ليس بعد. يبقى الوضع على ما كان قبل بنائه. يبقى الجسر الجديد مغلقا بسلسلة غليظة يتوسطها قرص منع حديدي أحمر، كختْمٍ قُروسْطَوي ضخم، ويبقى الطلبة يعبرون السكة على الأقدام متوجسين حذرين من قطار قد يدهمهم من العدم.
 
مرّ يونس إلى الضفة الأخرى، كأنَّ المدى الواسعَ ما زال حقولاً وجناتٍ من أشجار التين، كأنه ما زال أحراشاً يصطاد فيها الفتيان الطيور، يشوونَ الصامتة ويدخرون المُغرِّدة لبيع ثمين. لكنَّ شرق السكة اليوم امتلأ بالمباني. صار مدينة جامعية عليها قوسُ بوابة حجرية كبيرة لا يدري أحد ما ينتظرها من هدم لأجل سكة أخرى أعلاه. لا بأس. داس يونس قضبان الحديد مكتفيا بالتفاتة خفيفة ذات اليمين وذات الشمال. حتى لو كان القطار على مسافة متوسطة رجلاه الأولمبيتان سباقتان، ثم القطار له صفيران منذران. صفير السائق وصفير احتكاك الأسلاك بقابِس القاطرة المتزلج حين تقترب. خلَّفَ يونس كلَّ شيء وراءَ ظهره. الجسرَ والسكةَ والحي، واقتحم العقبة حتى أعلاها، ثمَّ توقف قليلا عند مدرسة الأساتذة. التمارين تجري فيه مجرى الدم وزادَها جريانا في عروقه قرب مباراة ولوج المدرسة. سينجح لا محالة، سيصير أستاذا للرياضة، يعمل ما يحب ويحب ما يعمل، وينفقُ ذات اليمين وذات الشمال على أسرته الفقيرة، وعلى نفسه إن بقِي من أجرته شيء.
 
 
عبْرَ السياج تأمل المدرسة وساحتَها وبناياتِها، وتملَّى ملاعبَها. تخيل تلاميذه بعد عام من التكوين. تبسم واستدار يُتم جريَه الخفيف بالخلف وكأنهم قد تجمعوا من حوله يعطيهم توجيهاته في جو لطيفٍ حميم. بدا له أسفل العقبة قرصُ المنع الحديدي الكبير واسطة عقد السلسلة مثل ميدالية لا يحب أن يُوَشَّحَها أحد، تمنع الصعود من جسر الطلبة الجديد. الجسر تام البناء وجاهز للاستعمال، لكن.. ليس بعد، ليس بعد، ليس قبلَ موعد التدشين وتفرُّغِ مَن يهمه الأمر لطقطقة النعال وسط الرجال وقطعِ الشريط الأحمر والتقاط الصور.
 
استدار يونس ومضى صُعُدا حتى غاب في غابة مجاورة يدور حولها مرات ومرات. ثم قذفته أشجارها يركض دون توقف. كان يركض ركض الأبطال، كأنه للتو بدأ، كأنه لعبة يتجدد رصيد حيَواتِها الإلكترونية دون توقف. تراءت له من جديد الميدالية القصديرية على مطلع الجسر. أخذت تكبر وتكبر، وحين اقترب زاد سرعته كأنه سيقفز فوق حاجزٍ ويتحدى المنع، لكنه انزاح كعادته آخرَ لحظة وتوقف جانبا ينتظر عبور قطار داخلٍ إلى المحطة القريبة. توقف ولم يقِف. ركض مكانَه كيلا يفقد حرارته ولينطلقَ فورا. تبسم وهو ينظر إلى المسافرين الجالسين خلف نوافذ العربات وقد فوضوا "للمَاشِينَة" الركضَ مكانهم. لكنه هو لا يفوض الركض لأحد. الركض له وله الركض، وقد كانت أمه ترقُّ لحاله وتدعو له دوما أن تغلبَ بركتُه جريَه. مرت المقطورة الأخيرة فانطلق كالسهم يُرافقه نداءٌ ارتفع في جو السماء. ربما كان نداءَ الحارس القائم على منع الجسر، أو ربما كان نداء طالب في الضفة الأخرى. لم يتوقف يونس ولم ينتبه. كان الصوت مغمورا بضجيج قطارٍ آخر يركض منصرِفا على السكة الثانية الموازية. ضاع النداء في ضجيج الضجيج، والتقم حوت الحديد جسدَ يونسَ الأولمبي.
 
 
 
تجمّع العابرون من الطلبة يندبون حظّ الرياضي المسكين. صرخ أحدهم بقوة الغضب والاضطهاد يلعن التدشين والمدشنين. تقبَّضَ بالسلسلة التي تتوسطها الميدالية اللعينة. انتزعها مثل حق لا يُعطى أبدا إلا إذا انتُزع. صعد الجسر يصرخ مثل نائحة ثكلى فوق جبل، وصعد الطلبة متضامنين محتجين. لا إغلاق بعد هذا الثمن الباهظ. كم طالبا يجب أن يقضي حتى يُفتحَ الجسر. لا انتظار. لا تدشين. لا حارس يحرس المنع.
 
والحارس المسكين، كان ينظر مشدوها لرياضيٍّ فتيٍّ طري كان يمر كل يوم إزاءه، يوهِمه أنه سيقفز فوق السلسلة. ليته قفز فوق السلسلة، ليته قفز.