في الحانة مع مظفّر

في الحانة مع مظفّر
الشاعر الراحل مظفّر النواب.
Smaller Bigger

جو قارح

 

يمكن لهذا الحوار الخياليّ ألّا يحدث أبدًا، وهذا أمرٌ طبيعيّ، لا بل هو المصير الأساسيّ المتوقّع والمدروس لكلماتي التّالية. لكن خوفي أن يتحقّق، بسرعة وخفّة، لأنني عندها لن أحاور مظفّر النّواب شخصيًّا بل إحدى قصائده المطبوعة غصبًا عنّي في باحات مخيّلتي الشعريّة وحماسي الشبابيّ النّافر. لذا، أتمنّى على كل منالشّوارع، الأرصفة، الجدران، الشّرفات، الحانات والمقاهي ألا تتركني ألاقي مظفّر فيها بل أن يُختصر كل هذا بمروري به في قصيدة ناعمة له- مع أنني متأكدّ أنّه لا يوجدهذا النّوع من السّخافات أبدًا.

الحوار تكملة لقصيدة مظفّ النّواب الشّهيرة "في الحانة القديمة" يرثي فيها حاله وحال العرب في حانة ما وهو سكران ضائع مشرّد.

مظفّر: أُمِن أحد يفتح باب الحانة؟ أغلقوا الباب عليّ وبقيت ثورتي معي وأحلام العرب كلّها تلدع جلدي المهترئ. أمِن أحد في الخلف، نسيه النّادل أيضًا، يفتح لي؟

أنا: أستاذ مظفّر، لحظة  لأجد المفتاح، لكن أخبرني، فلا أعتقد أنني سأجد الوقت لاحقًا لأسألك، أكل احلام العرب معك؟

مظفّر: ويا ليتها لم تكن معي! فكلّها عفونة ومرارة. لكن كلماتي متسوّلة ككلاب ليليّة تلهف لتلك الرّوائح الكريهة، تجلس بالقرب منها حتّى تنام. أما أنا فوحيد خصوصًا في اللّيل. أنا أعمى، صوتي بدأ ينطفئ، وليس لي دليلٌ غيرها. مرغمًا أتمدّد جنبها، أغفو فتغمرني روائح العروبة والقضايا البالية. ألن تفتح لي؟

أنا: أستاذ مظفّر كيف أفتح لك وأنت في هذه الحالة؟ دعني آتي ببعض الماء والصّابون فلا يستطيع النّاس أن يروك بهذه الحالة.

مظفّر: لا يهمّني من سيراني. لا أتذكّر أصلًا كيف كنت قبل أن تلتصق عليّ تلك الرّوائح. أشعر أحيانًا -لا بل دائمًا- أنني منها وهي منّي. لكن الوضع تغيّر في الخارج فأنا عالقٌ هنا منذ شبابي. أتسمع ماذا أقول أم رحلت؟

أنا: طبعًا هنا أستاذ مظفّر،أنا أنتظرك لتنهي حديثك لأخبرك أن القدس على حالها، وكذلك بغداد ودمشق وبيروت. إلا أنّهم كفّوا عم اصطياد الشّيوعيين واليساريين منذ زمن.

مظفّر: أترى، قلت لك أن الوضع تغيّر.

أنا: مظفّر، لم يعد هنالك شيوعيون عرب لاصطيادهم، فقضايانا أصغر من أحلامه لا تشبع ثورتهم الجائعة. والقومية العربية أصبحت اختبارًا للحنين وشعارات ممزقة فقط.

مظفّر: لا تكترث كثيرًا، هذه حالنا مذ حرّرنا القدس على لافتاتنا وتناسينا أنّها حقًّا موجودة. يبدو أن العرب كلّهم في الحانة معي، وكلّهم ثملون. لا تخف، في الخارج عربٌ يكفون لاسترداد العالم كلّه، لا القدس وحدها.

أنا: مظفّر، عن أيّ عرب تسأل؟ لو لم تصرخ بالعربيّة استنجادك لغمرتك بتعابيري الإنجليزية الفصيحة. انتبه! إن أردت الخروج حقًّا فلتعلم أن كل هذا الذّي كنت تسميه "شِعْر" لم يعد له أهمية. من يكترث لنواح عربيّ غير مفهوم يخرج من حنجرة مبحوحة منصوبة تحت شاربين مهملين؟ مظفّر، العالم تغيّر كما القضايا. لم يعد عليك استعادة القدس فقط، بل بيروت ودمشق وعمّان وبغداد وكل أراضي العرب المحتلّة.

مظفّر: احتُلّ العرب كلّهم؟! لن...

أنا (مقاطعًا): مظفّر، احتلّوا بعضهم بعضًا أوّلًا، ثمّ أتاهم الغرب على صهوة لغة جامدة وألواح مضيئة. إذا ناديتهم من هنا لن يفهموا عليك أساسًا ماذا تقول – هذا إن سمعوك أصلًا.

مظفّر: أتعلم؟ لا تأتي لا بل مفتاح ولا بالماء. أتركني غاطسًا في سَكَري فلست أقوى على كتابة أبيات تكفي للجم كل هذا الفحش. لكن لي عندك طلب واحد: كلّما مرّرت بالقرب من إحدى قصائدي طمئنها أنني لم أَحِد عن مبادئي لدرجة متّ من الثّمل ولم أقبل التغيير والخروج من هذه الحانة بروائحي الكريهة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

مجتمع 11/13/2025 4:43:00 PM
أكّد المدير العام للطيران المدني المهندس أمين جابر أنّ التحويل في مسار الرحلات جاء نتيجة الأحوال الجوية القاسية في الشمال.
سياسة 11/14/2025 2:56:00 PM
الجيش الإسرائيلي: الوحدة 121 بحزب الله مسؤولة عن ملف اغتيال سياسي لبناني مسيحي