الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

بين هاملت صربيا وهاملت لبنان

المصدر: "النهار"
فيلم هاملت.
فيلم هاملت.
A+ A-
 
ميلاد طوق- سينمائي

على خلفية المشهد اللبناني، تذكرتُ منذ أيام أحد الأفلام التي كنت قد عملت عليها كمدير للتصوير مع المخرج الصربي الصديق ألكسندر ريكوفيتش. الفيلم هو"هاملت"، المقتبس من مسرحية "هاملت" لشكسبير، وقد تم تصوير هذا الفيلم في صربيا في منطقة ديبونيا القريبة من العاصمة بلغراد، التي تحتوي على اكبر مكب للنفايات في أوروبا على ضفاف نهر الدانوب. تدور أحداث الفيلم في هذه "المزبلة" حيث تأتي مئات الشاحنات المحمّلة نفايات المدن لتفرّغها على ضفاف النهر وعلى مدار السّاعات.
تعيش على أطراف هذه المزبلة التي تحولت الى امبراطورية من القمامة، مجموعات من الغجر حيث أنشأت مساكن لها من الفضلات، منهم من ينتمي الى الاسلام ومنهم من ينتمي الى المسيحية. كانوا يعيشون في صراع دائم عنيف ودموي أحياناً حول أحقية من سيحظى أولاً بالقسم الاكبر من النفايات لفرزها وإستخراج المواد والأشياء المفيدة منها لبيعها.
 
كنت اتجول يومياً طوال 65 يوما في هذه الأمبراطورية، كون احداث الفيلم تدور فيها. وهي أيضاً مملكة هاملت حيث يمضي معظم أوقاته مع حبيبته أوفيليا ويهدي إليها ما يعثر عليه في القمامة، ومن بين ما حظي به اثناء تفتيشه في النفايات، كتاب "هاملت" لشكسبير.
 
كانت النفايات تحتوي على بقايا الطعام من مخلّفات البيوت والمطاعم، إضافةً إلى قطع الأثاث، وبقايا مساعدات الإتحاد الاوروبي من صناديق وعلب فارغة، وقناني الكولا والمشروبات الروحية والكتب على أنواعها: قصص وروايات من الأدب المحلّي والعالمي، ومجلّات وصحف، إضافةً إلى موسوعة تاريخ الحضارات، والكتب الفلسفيّة وتذكارات الصور الفوتوغرافيّة والملصقات السياسية، وأعمال تيتو وصوره، وكتب ماركس ولينين، كما إصدارات للقوانين وحقوق الانسان، وبقايا نوطات موسيقية، فضلاً عن قطع الحديد والنحاس والالمنيوم والآلات الكهربائية حتى القطع الذهبية والنقود والتي كانت في أساس الصراع الدائم والمميت.
 
في كثير من الاوقات، تعثر على جثث لرُضّع حديثي الولادة وقد تم رميها في النفايات إلى جانب حيوانات نافقة وغيرها.
 
وكانت تقتات على هذه "المزبلة" ملايين الطيور من النورس والغربان وسواها التي كانت تصدر أصواتاً قوية مرعبة وهي في حالة إقتتال دائم. وتنبعث من هذا الجبل - المزبلة إلى جانب غاز "الميتان" الذي يحوله الى حقل من الألغام، روائح كريهة خانقة، تمنعك من التنفس وتتسبب لك بالتقيوء الدائم. وهذا ما أصابني في الاسابيع الاولى من العمل على الفيلم بصعوبة التنفس والتقيوء اليومي وعدم تناول الطعام نهاراً إلا بعد العودة الى فندق اقامتي ليلاً وبعد الاغتسال.
 
مع مرور الأيام اعتاد جسدي واعتادت عيناي على امبرطورية النفايات، وتغيرت نظرتي الى تلك القمامة فصارت كأنّها من يومياتي العادية، بل أصبحت جزءاً من حياتي في العمل والتصوير، وقد استُحدِثت لي غرفة من القمامة شبيهة بأكواخ الغجر حول المزبلة، لآخذ قسطاً من الراحة أثناء العمل ولتناول الطعام وللتدفئة بواسطة "صوبيا" مصنّعة من برميل حديد تتغذّى نارُه من حريق النفايات كون الحرارة أثناء العمل في شهر كانون الاول تصل إلى 20 درجة تحت الصفر.
 
لماذا هذا السرد؟ لأقول:
إني مذ كنت ولداً يافعاً، تفتّحت عيناي على الحرب والموت، وأكبر الاحتفالات كانت جنازات رفاقي في المدرسة الذين قُتلوا في الحروب العبثية. بعد إنتهاء دراستي الثانويّة، سافرتُ الى الخارج لدراسة السينما حيث عملت لمدة عشرين عاماً، وبقيت في ذاكرتي الاحتلالات والتصفيات والاغتيالات والخطب الرنّانة، حتى عودتي مجدداً لأجد نفسي في مملكة "هاملت" التي تغص بقمامة التعصب والجهل والاستزلام والفساد والتزوير والتفشيخ والحقد والتصحّر والتلوث، عبر القضاء على ما تبقى من طبيعة وقيم، مما يدعو الى التقيوء المستمر وانقطاع النفس.
 
وها بعد 21 عاما من عودتي، لم أستطع التأقلم في هذه المملكة - المزبلة.
أمّا الفرق بين مزبلة فيلم "هاملت" في صربيا و"مزبلة هاملت" في لبنان فهو أن المزبلة الاولى كانت حافزاً للإبداع ولإبتكار لغة بصرية جميلة مما جعلني أفوز بأفضل جائزة للتصوير السينمائي في أوروبا. في حين أن المزبلة الثانية كانت بلدا جميلا حولته الوحوش البشرية الى أمبراطورية من القمامة والأشلاء، تقتل فينا الاحلام وتقضي على أي شعور بالكرامة وتحوم فوقها الغربان الناعبة.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم