الطائف عودة إلى الوراء؟

ندخل العام الثاني بعد المئة على إعلان لبنان الكبير في أوضاع مأساوية. ولكن على الرغم من كل السواد المحيط بنا لا يزال في هذا الوطن شيء ما من الأمل ولا يزال قابلاً للحياة. والأهم أنه قادر طبعاً على إعادة إنتاج دوره بفعل القناعة العامة بنهائيته من جهة وانتهاء مدة صلاحية النظام القائم من جهة أخرى. وهذا بغض النظر عن الثروات الطبيعية المكتشفة في البحر والتي يتولى البعض بيعها مسبقاً بالمفاوضات.

لبنان قادر على النهوض ولكن على أسس جديدة أولها الانتهاء من أداة الحكم والعمل السياسي التي سادت خلال قرن وهي المرجعية السياسية الطائفية الزبائنية المتقاسمة للموارد والمصائر، المتوافقة حيناً والمتناحرة أحياناً والمتفقة أبداً على البقاء ولو على جثثنا.

دستورنا جيد وقابل للتفعيل رغم ملاحظات الاختصاصيين التقنية واعتراضات القوى المتصارعة على الأحجام والصلاحيات. لأن فيه بذرة بناء الدولة وأسس هذا البناء ولكن العبرة في من يدير الآلة ويقودها وليس فقط في الآلة نفسها.

خير مثال على ذلك ما نشهده اليوم من تعطيل لمجلس الوزراء، المؤسسة التي أناط بها الدستور في تعديل العام 1990، السلطة الإجرائية، أي سلطة إدارة الدولة. توقف المجلس عن الاجتماع سببه التقني المباشر هو امتناع رئيسه على الدعوة لعقد جلسة أما سبب امتناعه عن ذلك فهو إعلان قسم من الوزراء امتناعهم عن الحضور لسبب لا يتصل بعمل السلطة الإجرائية. وهذا حصل في السابق ويحصل اليوم رغم أن واضعي النص حرصوا على تلافي أي تعطيل عندما أرادوا أن يكون مجلس الوزراء مؤسسة بذاتها ووضعوا قواعد تحدد نصاب اجتماعه والتصويت على المقررات.

"يجتمع مجلس الوزراء دوريا في مقر خاص" (المادة 65 من الدستور). و"يكون النصاب القانوني لانعقاده اكثرية ثلثي اعضائه، ويتخذ قراراته توافقيا. فاذا تعذر ذلك فبالتصويت، ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور. أما المواضيع الاساسية فانها تحتاج الى موافقة ثلثي عدد اعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها."

النصوص الدستورية وُجدت لتعمل لا لتعطل ومن بديهيات قواعد تفسير النصوص أنه عند غموض النص يُفسّر بالمعنى الذى يُحدِث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمّناً التناسق بينه وبين النصوص الاخرى.

أبرز "الإصلاحات" الدستورية التي أتت بها تعديلات الطائف، أنها نقلت السلطة الإجرائية من يد شخص واحد هو رئيس الجمهورية إلى يد مؤسسة جماعية هي مجلس الوزراء، وهذا كان كافياً بنظر من واكبوا تلك الإصلاحات، ليشكل ضمانة عدم التعسف والاستئثار بالسلطة. وإذ بهذه المؤسسة تتحول بالممارسة إلى موقع للتعطيل لا يجتمع إلا عندما يتأمن له المناخ السياسي المؤاتي وليس عندما يدعو إليه رئيسه ويتوفر في جلساته النصاب الدستوري. الغريب أن هذا الواقع أصبح كالكثير من التشوهات التي تشوب عمل المؤسسات، جزءاً من أدوات العمل السياسي، والأغرب أن من يمثل الطائفة التي منها يأتي رئيس مجلس الوزراء وتعتبر الأكثر حرصاً على إصلاحات العام 1990، هو اليوم من يتعايش مع تغييب للمؤسسة. ومن نتائج ذلك عودة العمل ببعض قواعد دستور ما قبل الطائف وإصدار المراسيم بتوقيع من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المختص خلافاً للدستور.

يقول "مونتسكيو" صاحب نظرية الفصل بين السلطات أن سلطة التنفيذ يجب أن تكون في يد الملك، لأن هذا الجانب من آلة الدولة بحاجة دائمة للعمل الآني أو الفوري، لذا فإنها تدار بشكل افضل من قبل شخص واحد وليس من قبل مجموعة. أما بالنسبة لسلطة التشريع فغالباً يفضل أن يتولاها هيئة جماعية.

دستورنا يقول غير ذلك ويجب أن يطبق حتى تنهض قوى سياسية جديدة على أسس وطنية تدير الشأن العام بعيداً من الانتماءات الطائفية وينقضي زمن التعطيل والانهيار.