إرهاب أم "سلبطة" أم لصوصيّة مصرفيّة؟

فليسمح لي القرّاء بأنْ أروي مشكلةً "شخصيّة" (هل هي شخصيّةٌ حقًّا) جرت معي قبل أيّامٍ قليلة في أحد المصارف اللبنانيّة، عندما قصدتُ أحد فروعه في العاصمة، لتسديد قسطٍ جامعيّ، بالعملة الصعبة (!)، تغطيةً لنفقات تعليم أنسي في الخارج.
قد تكون أيّها القارئ المواطن الكريم، وحدكَ مَن يدرك هموم الأقساط ومآسي التعلّم في الخارج، تحت سماء "الرعاية الفريدة" التي توليها السلطة في لبنان، والمرجعيّة الماليّة المصرفيّة، لأولياء الطلّاب، وللطلّاب الذين يدرسون في الخارج، ويعانون الأمرّين من جرّاء ما آلت إليه "كرامة" ليرتهم اللبنانيّة الممرّغة بتراب الاسترخاص والإذلال.
لا بدّ من أنْ أعود قليلًا إلى الخلفيّات، لأضع بين يدي القارئ مجمل المعطيات الموضوعيّة. ففي آخر هذه السنة الدراسيّة (2020 – 2021)، يحصل وليُّ عهدي، أنسي، على إجازةٍ جامعيّةٍ أرادها أنْ تكون "خارج المألوف" - تخصّصًا في "بزنس" الرياضة، وتحديدًا في إدارة رياضة الفوتبول، مأخوذًا بشغفٍ عميقٍ باللعبة وفنونها وأسرارها وخلفيّاتها، ومأخوذًا في الآن نفسه بمعايير العمل في الأندية والفرق الرياضيّة، وبأصول اختيار اللاعبين وتنظيم العقود معهم وإدارة أعمالهم ومشاريعهم.
لا يريد أنسي الاكتفاء بالإجازة الجامعيّة التي سينالها من جامعة لوف بورو الإنكليزيّة المرموقة Loughborough، بل تعميق تخصّصه في هذا الباب، الذي يبدو أنّه سيكون أرضًا عذراء من أراضي البزنس الجديدة، غنيّةً بالاحتمالات الواعدة وفرص العمل السخيّة. وقد اختار منذ الآن موضوعًا للماجستير، يتعلّق، على ما أخبرني، بكيفيّات التعاقد مع اللاعبين، والإشراف على تنظيم أمورهم.
لهذه الغاية، وتمكينًا لقدراته، سجّل أنسي نفسه بالتوازي مع التحاقه بالجامعة الانكليزيّة، في أكاديميّةٍ رياضيّةٍ مرموقةٍ في مدينة برشلونةSports Business Institute Barcelona ، للسنة الدراسيّة الحاليّة، بهدف متابعة المحاضرات القيّمة جدًّا، التي يلقيها لاعبون ومدرّبون واختصاصيّون ومديرو أعمال وأساتذة راسخون في هذا المجال.
 
اختصارًا للتفاصيل، لم أتمكّن من تسديد أيِّ قسطٍ جامعيٍّ، بنفسي خلال الأعوام الفائتة (للأسباب المعروفة). بل تولّى ذلك أصدقاء شخصيّون وعائليّون لي، يقيمون ويعملون في الخارج (هم بالطبع ليسوا زعماء ولا قادة ولا سياسيّين ولا فاسدين ولا سارقين ولا مبيِّضي أموال)، على أنْ أسدّد لهم هذه الديون والمستحقّات عندما تنفرج (متى تنفرج؟!).
المهمّ، وعودةً إلى أصل الحكاية، فقد "قرّرتُ" أنْ أرسل بإمكاناتي الشخصيّة مبلغًا قدره 975 يورو، إلى الأكاديميّة الأسبانيّة، فيتمكّن أنسي على الفور من متابعة المحاضرات والمناقشات والشروح التي تُجرى من بُعد، بطريقة الـ"الزوم"، نظرًا إلى الظروف الوبائيّة الخطيرة.
ذهبتُ إلى المصرف، حيث أملك حسابًا بالدولار، متواضعًا جدًّا، بل أقلّ من متواضع، لإجراء معاملة "ترانسفير" (تحويل)، حاملًا معي المبلغ "كاش"، وقد ظننتُ لوهلةٍ أولى أنّ المسألة ستمرّ بسهولةٍ وسيولةٍ وليونة. لكنّي كنتُ – كما دائمًا – "حمارًا" في الحساب والمال وشؤون المصارف وعمليّاتها المضنية التي لستُ مؤهّلًا لتحمّل أعبائها، ولا لمبدأ الوقوف في مصرف أمام موظّف أو شبّاك.
طلب منّي العاملون هناك أنْ "أفتح" حسابًا جديدًا. بماذا يا عقل؟ بالعملة الأوروبيّة، التي لا أملك منها إلّا المبلغ المذكور أعلاه. واشترطوا أنْ أضع في الحساب مبلغ deposit ليتمكّنوا من تنفيذ المعاملة. وأوضحوا أنّ عمليّة التحويل تستدعي دفع نحوٍ من أربعين دولارًا، كإجراءٍ روتينيٍّ مرافق.
أنا الذي لا يملك سوى ما أملك، وقفتُ مصعوقًا: لماذا يجب أنْ أفتح حسابًا بالعملة الأوروبيّة في حين أنّ لي حسابًا بالدولار؟ ومن أين لي أنْ أفتح هذا الحساب الجديد، وبأيّ مالٍ؟ وكيف لي أنْ أضع مبلغdeposit في هذا الحساب المستجدّ؟ 
قلتُ للعاملين هناك، وأنا على شيءٍ من الغضب الممزوج بالخروج على الطور: هذه معاملةٌ ماليّةٌ لتسديد قسطٍ لطالبٍ جامعيّ يدرس في الخارج، هل يعقل أنْ أعامَل كرجل أعمال أو كصاحب أموال؟ معقول ها الشي؟ ولو؟!
وعدتُ الموظّفين هناك، وأنا خارجٌ غاضبًا، بمقالٍ "يشرشح". لكنّي بعد مرور ثلاثة أيّامٍ على الحادثة، ها أنا أكتفي بكتابة هذا المقال "العاقل"، واضعًا إيّاه في متناول القرّاء، ورئيس الجمهوريّة، والحكومة، ووزير المال، والمصارف، وحاكم مصرف لبنان المالك سعيدًا.
في الختام، يهمّني أنْ يعرف القرّاء الكرام كيف وجدتُ "حلًّا" لمأزق التحويل. أحد هؤلاء الأصدقاء في الخارج، تولّى بنفسه بعمليّة إرسال المبلغ إلى الأكاديميّة الاسبانيّة.
وإذ أعتذر عن رواية هذه الحكاية "الشخصيّة"، التي لا أعتقد أنّها شخصيّة، بل ترمز إلى ما يعانيه كلّ لبنان، وكلّ الطلّاب الذين يدرسون في الخارج، وأولياء الطلّاب على السواء، أتوجّه، على الهامش، بهذا السؤال إلى الرئيس والحكومة والمصارف والحاكم: هذه الشروط التعجيزيّة المطلوبة من طالبٍ جامعيّ، أو من وليّ أمر طالبٍ جامعيٍّ يدرس في الخارج، ألا تندرج في باب الإرهاب والتيئيس والتهجير و"السلبطة" واللصوصيّة؟
... والدولار الطالبي، أين هو الدولار الطالبي؟!
على كلّ حال، شكرًا للحكم، شكرًا للرئيس، شكرًا للحكومة، شكرًا للمصارف، وشكرًا للحاكم. والسلام.
Akl.awit@annahar.com.lb