محمد بيضون السياسي الاستثنائي والمفكّر الموسوعي وحامل أسرار لمراحل الحساسة

بهدوء تام رحل النائب والوزير والقيادي السابق في "حركة أمل" محمد عبد الحميد بيضون تماماً كما دخل ذات يوم من أربعين عاماً عالم السياسة ليحتل فيها مكانة مرموقة.

اختار في مطالع الثمانينات من القرن الماضي أن ينتسب إلى "حركة أمل" التي كانت يومذاك تكتنز حضوراً وتثبت تاثيراً في المسرح السياسي بعدما تراخت قبضة الحركة الوطنية بعد الخروج الفلسطيني من لبنان، وبعدما تولت المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي وقرّرت منازلة عهد الرئيس أمين الجميل. في تلك الحقبة أخذت "حركة أمل" قراراً في مؤتمرها العام المنعقد في بيروت قراراً بتكليف رئيسها نبيه بري بالبحث عن نخب شيعية متنورة من خارج إطارها التنظيمي ترفد العقل السياسي للتنظيم الذي يعود تأسيسه إلى مطالع السبعينات. فكان بيضون اليساري النشاة كما غالبية أبناء جيله وأستاذ الرياضيات في الجامعة اللبنانية فوجد التنظيم في بيضون ضالته المنشودة مع مجموعات شخصيات أخرى ما لبثت أن انسحبت تدريجياً. الأمر كان يومها بمثابة ملء لفراغ حل بعدما كانت النخبة المشاركة بالتأسيس مع الإمام موسى الصدر قد غادرت تدريجياً خصوصاً بعد اختفاء المؤسّس والمرشد والملهم .انضم محمد مباشرة إلى المكتب السياسي الجديد للحركة والخليط بين قدامى صاعدين تنظيمياً واخرين مستعان بهم من خارج الأطر التنظيمية. نجح محمد في أمرين "الصمود " في وجه اعتراضات الحركيين الاصيلين على الرجل "قليل الالتزام الديني " وفي اكتساب ثقة رئيس الحركة به وإعجابه بأدائه وقدرته على الحراك والتنظير والتحليل والخطابة.

وبسرعة قياسية أثبت الرجل حضوره فصار رجل المهمات الصعبة عند بري وصلة وصل موثوقة مع الخارج ومتولّي الملفات الدقيقة والمعقدة خصوصاً أن الحركة كانت في تلك الحقبة قد دخلت في مواجهات دائرية مع الفلسطينيين (حرب المخيمات) ثم مع اليسار (حرب العلمين ثم حرب بيروت)، ولاحقاً مع "حزب الله" (حروب الضاحية وبيروت).

وأكثر من ذلك عد محمد دوما المنظر الفكري والثقافي للحركة وصائغ مواقفها السياسية وكاتب بيانات مكتبها السياسي ومدبج وثائقها.

المكافأة الأولى لهذا الرجل الاستثنائي أتت من خلال تسميته رئيساً لمجلس الجنوب ثم تسميته نائباً عن صور المنتمي إلى إحدى بلداتها (شحور) وبعدها تولى وزارات عدة على مدى أكثر من عقد ونصف من السنين.

ولحد الآن تتعدّد التكهنات وتنسج الروايات عن الأسرار المكتومة التي أدّت إلى الصدام بينه وبين الرئيس بري والذي انتهى بقرار من رئيس الحركة بابعاده عن التنظيم إبان كان وزيراً  في عام 2005.

ولكن ما يعرف أن الرجل انطلق من يومها في رحلة عداوة طويلة للرئيس بري شخصياً .واللافت أن الاخير كان يحرص على عدم الردّ عليه أو الدخول في مساجلة معه

وعلى رغم أن بيضون استنكف لاحقاً عن الترشح للنيابة لإدراكه المخاطر، لكنه خاض تجربة العلاقة مع الحريرية السياسية، لكنه لم يلبث أن غادرها سريعاً إذ أنه لم يقتنع بها ولاهي وجدت مفيداً لها الإفراط في إزعاج بري والمضي بعيداً في الاشتباك معه عبر الاستعانة ببيضون.

من يومها انكفأ الرجل ليكتفي بأمرين إطلالات إعلامية يطرح فيها رأيه بالتطوّرات والأحداث ودوماً من منطلق النقد والتجريح بالثنائي الشيعي، ومجالس أنس سياسي يومية مع نخبة من الإعلاميين وسياسيين ورفاق درب فضلا عن صيرورته مرجعاً للإعلاميين يجدون دوماً عنده زاداً معرفياً لايستهان به مواكباً لتفاصيل الأحداث.

.وعلى هذا المنوال نسج لسنين عدّة إلى أن أصيب بعلل شلّت حركة هذا الرجل الموسوعي واسكتت لسانه عن التنظير وجاءنا بالأمس نعيه.

رحم الله هذا السياسي والمفكّر النادر وصاحب الجلسات الراقية والحضارية والآراء الخلاقة والمتطورة.

إنه سياسي استثنائي بكل المقاييس ولكن السياسة دوماً جاحدة وظلومة.