السلطة من أمامكم والموت جوعًا من ورائكم فأين المفرّ؟

الرجل الذي ألتقيه كلّ ليلةٍ تقريبًا، عند براميل الزبالة والنفايات في الحيّ، وأنا في نزهتي المستوحشة قبيل أنّ تدقّ الساعة اثنتَي عشرة دقّة، نظر أمس في وجهي وقال لي بعينَيه المليئتَين: بدّك إحكيك بصراحة؟! قلتُ: تفضّل. قال: أقصى أمنياتي أنْ لا أعود أعثر على بقايا مأكولات. هكذا أقف تمامًا أمام حائط الجوع، فإمّا أنْ أموت بسبب ذلك، وإمّا أنْ ألجأ إلى طريقةٍ "غير قانونيّة" لإسكات فحيح الجوع.

لم يكتفِ الرجل بذلك، بل طلب منّي أنْ نتمشّى قليلًا لنواصل الحديث. فتمشّينا. قال: الناس لم يصلوا حتّى اللحظة إلى مرحلة الجوع الحقيقيّ اللاذع القارص المؤذي المضني القهّار والمميت. لو هم بلغوا هذه المرحلة الحسّاسة المتقدّمة، لكانوا انتقلوا "عفويًّا" و"طبيعيًّا" إلى "الخطّة ب".

لم يترك الرجل أمامي فرصةً للسؤال أو للمناقشة أو للحوار. بل تولّى بنفسه كشف النقاب عن هذه الخطّة، التي لا تحتاج في رأيه لا إلى عباقرة ولا إلى منظّرين ولا إلى مفكّرين ولا إلى كتّاب ولا إلى إعلاميّين ولا إلى... ثوّار، بل إلى مواطنين وجائعين.

قال: المسألة واضحة. يجب أنْ نجوع. يجب أنْ يموت بعضنا جوعًا، وبطريقةٍ مشهديّةٍ استعراضيّةٍ علنيّة. وفي المقابل – أضاف – لا بدّ أنْ يستنبط البعض طريقةً معاكسةً لمواجهة هذه الحالة المتطرّفة من الجوع، من مثل أنْ يعلنوا عصيانًا مدنيًّا أو يشعلوا النار في أجسادهم، على طريقة مَن سبقنا إلى ذلك، في غير بلدانٍ، من التي تضمّ شعوبًا أبيّة ومواطنين أحرارًا أصحاب كرامات.
 
 
حاولتُ أنْ أتدخّل لأقول شيئًا، فاعترض بإلحاح، مفصحًا عن الجوانب ربما غير المستحبّة وغير المستساغة من بنود "الخطّة ب". قال: لا مفرّ من الحصول على الطعام. لذا لا مفرّ من الفوضى، من الفلتان...

هنا، حاولتُ جاهدًا أنْ أتدخّل "بقوّة"، متهيّبًا ومتوجّسًا و... مستنكرًا، فقاطعني "بشدّة"، وكاد يرفع صوته في وجهي، فآثرتُ السكوت، فأكمل حديثه. قال: صدِّقني، أنا نفسي لا أرغب في اللجوء إلى مثل هذه "الحلول" التصعيديّة العنفيّة، ولا إلى الانتحار. لكنْ، انتظرْ أيّامًا أخرى، أي عندما يُرفَع الدعم عن المواد الأساسيّة، كالخبز والدواء والبنزين وسوى ذلك. آنذاك لن يعود ثمّة مجالٌ للتأجيل أو للهرب: الناس الذين لا يعملون ولا يقبضون ولا يملكون مالًا، كيف يأكلون؟ وكيف يُطعمون أولادهم؟ هل يجب أنْ أذكّرك بعبارة طارق بن زياد الشهيرة "البحر من أمامكم والعدوّ من ورائكم فأين المفرّ"*؟ لم يعد أمام الناس مع هذه الطبقة السياسيّة ومع سلطتها الغاشمة، إلّا أحد أمرين لا ثالث لهما، مستعينًا بالعبارة المذكورة، محوِّرًا فيها بما يتوافق والوضع اللبنانيّ الراهن، باعتبار أنّ طريق البحر مستحيل (أي الهجرة): هذه السلطة من أمامكم وهذا الجوع من ورائكم فأين المفرّ؟
 
 
 
هل يجب أنْ أسأل الرجل عن مكنونات "الخطّة ب"؟ هل يجب أنْ أكمل مشواري الليليّ العبثيّ العدميّ هذا، وليس من مفرٍّ إمّا إسقاط السلطة التي من أمامي (من أمامنا) وإمّا الوقوع في فكَّي الجوع الذي من ورائي (من ورائنا)؟

جرى هذا الحوار ليل أمس، وحُرِّر صباح هذا اليوم، 6 تشرين الأوّل 2020. والسلام.

• من خطبة طارق بن زياد لدى وصوله وجيشه إلى الأندلس: أيها الناس، أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم، وإِن امْتَدِّتْ بكم الأيامُ على افتقارِكم ولم تُنْجِزوا لكم أمراً ذهبتْ رِيحُكم، وتَعَوّضَتِ القلوبُ من رُعْبِها منكم الجَرَاءَةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خُذْلانَ هذه العاقبة من أمركم بِمُنَاجَزَةِ هذا الطاغية.

akl.awit@annahar.com.lb