رحلة الألف ميل كادت تنتهي... فمتى تعاود "اللّبنانيّة" فتح أبوابها؟

لطالما شكّلت الجامعة اللبنانيّة مادّةً دسمة للسّجالات السّياسية والانقسامات الحزبيّة... انقسامات هدفها الاوّل تجزئة الصّرح التّعليمي الوطني تحت شكل حصصٍ تراعي مآرب كلّ جهة سياسيّة مشاركة بالسّلطة، تماماً كتوزيع وتحصيص غنائم الفتوحات، وكأنّ السّلطة تسلّقت كلّ ما تراكم طوال الأعوام المنصرمة، من فساد واستهتار وصفقات مسّت بجامعة الوطن، إلى أن لامست مشارفها، ودخلت حرمتها عَنوةً.

بيد أنّ إضراب اليوم ليس بالغريب عن اعتصامات وتحرّكات مطلبيّة خاضتها الجامعة اللبّنانيّة منذ نشأتها، إلّا أنّ لا شيء يمكنه التّهدئة من روع طلابها، وقد تركوا مقاعدهم منذ تسعٍ وثلاثين يوماً، "مجهولي المصير" و"غير مستبشرين بعودة قريبة"، حسبما عبّر بعضهم على صفحة النّهار. وربّما بلغت إضرابات الجامعة اللبنانيّة ذروتها يوم أعلن طلّابها جهراً، في نيسان 1972، دفاعهم عن جامعتهم "ضدّ سلطة غاشمة"، وخطّت مبادرتهم بذلك عنواناً مدوّياً تصدّر إحدى صفحات "النهار" صادحاً: "طلاب الجامعة اللبنانيّة يبدأون اعتصاماً وصياماً حتّى الموت"... الأمر اليوم يختلف، فقلّة من الطلّاب مستعدّة أن تحتجّ وتعتصم، هم "المجرَّبون" من قبل، دون أي نتيجة ملموسة.

لا شاهد على الحقيقة أصدق من التّاريخ الذي يحدّد معالمها. ويشهد التّاريخ اليوم على أنّ معلومة واحدة، أو فصلاً من كتابٍ لم يُحرم منه طالب طوال أعنف وأشدّ أعوام الحرب التي عصفت بلبنان، وبالأخص بين عامي 1975 و1982، أو بين عامي 1989 و1992. نعم، التّاريخ يشهد، وكلمة حق تُقال، "لم ينقص شيء على الطّلاب طوال تلك الفترة القاتمة، والأمر نفسه سينسحب على الأيّام التي ستعقب فكّ الإضراب"، يؤكّد أساتذة الجامعة اللبنانيّة الذين يصرّون على التّواصل المستمر مع طلّابهم إن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو خلال اجتماعات كان آخرَها اجتماعٌ عُقد اليوم بين طلاب كلية الإعلام ـ الفرع الثاني والمدير الدكتور هاني صافي.

كمعصوبي الأعين والمساقين نحو المجهول، انبرى طلّاب الكلية يسألون ويستفسرون عن موعد استئناف الدّروس، وعمّا سيلي الإضراب من حصص مكثّفة وامتحانات. وقد عمد صافي إلى طمأنتهم من أنّ مستقبلهم بخير ولن يتعرّض لأي أذى، إذ إنّ الأجواء تلوح بتعليقٍ سريعٍ نسبيّاً للإضراب. هذه التّطمينات لم تُجدِ نفعاً عند البعض، الذين يصرّون على أنّ إجازتهم قد "احترقت"، وأشغالهم قد "تأجّلت وبقيت معلّقة في الهواء حتّى إشعارٍ آخر".

في حين يعبّر معظم الطلاب عن استيائهم من إضرابٍ قد يذهب سدىً كسابقيه، يرى آخرون ـ وهم قليلون نسبيّاً، تربطهم بالجامعة اللبنانيّة "قوميّة" نابعة من تعلّقهم بأحد آخر ما تبقّى من مؤسّسات العصر الذّهبي للجمهوريّة اللّبنانيّة ـ أنّ الإضراب "حقٌّ وواجبُ"، حقٌّ، لأنّه الوسيلة الوحيدة التي من شأنها أن تُجدي نفعاً مع سلطة ارتأت، وفقاً لأهوائها غير المنطقيّة، أنّ "مزراب" الهدر وبؤرة الفساد قابعان في ميزانيّة الجامعة اللبنانيّة بالدّرجة الأولى! والدّفاع إذاً عن هذه القوميّة التي انتهجتها هذه الفئة من الطّلاب هو واجبٌ عليهم لضمان استمراريّة عطاء الجامعة اللبنانيّة ومستواها العالي لهم وللأجيال المقبلة من بعدهم.

درجَ البعض على اعتبار أنّ عبارة "الجو إيجابي" تكون مُرضية للسّلطة، وكارثيّة بالنّسبة للجامعة. لكنّ الأمر تغيّر هذه المرّة، فإيجابيّة الجو هذه تنعكس على الجامعة اللبنانيّة وأساتذتها، حيث استطاع الاضراب الذي امتدّ لحوالي خمسة أسابيع، من حضّ السلطة السياسيّة بأقطابها كافّة على الموافقة على إضافة خمس سنوات عند احتساب معاش التقاعد للاستاذ الجامعي، والذي تعهّدت رئيسة لجنة التربية النائب بهية الحريري بالسعي مع وزيري التربية والمالية لعرض مشروع القانون على مجلس النواب لإقراره، حسبما أكّد رئيس مجلس المندوبين في الجامعة اللبنانيّة الدكتور علي رحال، الذي اعتبر أنّه و"في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر سيدخل هذا القرار حيّز التّنفيذ"، مشيراً إلى أنّ "الظروف لم تكن سانحة بما فيه الكفاية للحصول على المطالب كافّة، فقد سعت الرّابطة إلى الحفاظ على العام الدراسي وعلى مصلحة الاساتذة والطلاب والجامعة وسمعتها". ومع ذلك، يبدي رحّال بعض الرّضى عمّا حقّقه إضراب الأسابع الخمسة، وإن جاءت المكاسب ناقصة وغير كافية تقريباً، وهو، إذ إنّه عالِمٌ بوضع البلد الاقتصادي المأزوم، يقرّ "بمسؤوليّة الأساتذة، كأفرادٍ من هذا المجتمع، في تقبّل شيء بسيط من المسّ بميزانيّة الجامعة التي تساهم فيها الدّولة بنسبة عاليّة جدّاً، وذلك من أجل مصلحة الاقتصاد". وهو بذلك لا ينفي، طبعاً، المساس المتكرّر وغير العادل بميزانيّة الجامعة، ولا يتقبّله.

"في حديثنا عن الجامعة اللبنانيّة علينا التّفكير بمصالح ثلاث: الجامعة، الطّالب والأستاذ، بغضّ النّظر عن الضّرر الذي لحق بحقوقنا ومكاسبنا"، يقول رحّال، ويتابع: "اليوم، وقد أمّنّا جزءاً من مطالبنا، بات علينا أن نتفقّد جدّيّاً مصلحة الطلاب والعام الدراسي، وفي مكانٍ ما، علينا أن نحافظ على سمعة الجامعة اللّبنانيّة، فإضرابنا ليس غاية، إنّما وسيلة، وللأسف صُدمنا بنظرة بعض الأساتذة للإضراب على أنّه غاية، وهذا يعود لسببٍ واحدٍ وهو أنّ هذه المجموعة غير ضليعة بما فيه الكفاية في العمل النقابي".

وسط جوٍّ من الأخذ والرّد، الإيجابيّة والسّلبيّة، التّفاؤل والتّشاؤم، يبقى الطّالب، مسانداً للمبادئ والمطالب التي نادت بها الاعتصامات أم لا، معلَّقاً في الفراغ، في ضبابٍ رماديٍّ محمّلٍ بالكثير من الأسئلة والهواجس... ويبقى الأمل بدوره معلّقاً على ما سيخلص إليه اجتماع الهيئة التّنفيذية غداً، والذي على ضوئه يأخذ مجلس مندوبي الجامعة اللبنانيّة الإجراء المناسب. على أيّ حال، كفى تجاهلاً للواقع؛ إيجابيّةً أتت النّتيجة أم سلبيّة، سيتحمّل الطّلاب وحدهم ثقل تبعات الاضراب على كاهلهم، كما حمل وسيحمل الأساتذة على مناكبهم تبعات تراكمات الفساد المستشري بوقاحة حدّ إيذاء الجامعة الوطنيّة. الطّالب وأستاذه واقعان في اليمّ نفسه، وعليهما مواجهة المصير عينه، والبحث عن خشبةٍ ما لخلاصهما، فمَن يعوّض عليهما حين تلفظهما الأمواج إلى البرّ؟