ملوك الآخرة

رضا نازه- المغرب

"- هل توقف المطر؟"

غمغم أبو العباس السبتي مِن تحت أغطيةٍ بعضُها فوق بعض في زاوية من حجرةٍ مظلمةٍ خرساء. مقشعرا مرتعدا صلى العشاء وصنع لنفسه شرنقة تحفظ أدنى سُعرة من جسده. وامرأته تزيده من حين لآخر دثارا تحت طلبه، لعل الرعشة العنيدة تسكن. سُدىً. أجابته غُنّتُها على مقربة منه:

"- بالعكس.. المطر اشتد في صمت..

- عجيب.. البرد القارس يخف مع المطر وأنا أحس بوخزه في كل مكان؟ ترى.. ماذا علي أن أفهم عن الله؟"

عمَّ الصمت، ومال أبو العباس عن شِماله بعناء تحت كومة الأغطية. حاول استجماع حرارته من جديد، كأن فتحَ شفتيه بدَّدَها. أحست امرأته بتململه في فراشه مثل ملدوغ كهربه السم. سلكتْ يدها ومسحت على ظهره لعل لطفا وحُنُوًّا يدفئه. هيهات. الرعشة الغريبة تحاصره، ومنظره مُسجًّى في بيت مظلم يوحي ببرودة الموت. هل ارتدَّت عليه حركةُ نهاره الدائبة، يحث الناسَ على تفريج كُرُباتِ الناس والتداوي من كل داء بالعطاء والجود؟

"- كأنني في ليالي حصار مراكش.."

فهمتْ عنه امرأته فلم تُعَقب. بدل التشكي سيعيد حديثَ الحصار طمعا في مداراة البرد. الحكاية سمعَتها مرارا، وفي كل مرة كان يضيف تفاصيل جديدة، حتى كأنها حديثةٌ ماثلة. كأن نعيَ ابن تومرت وصله للتو فهبَّ من سبتة إلى مراكش ظنا أن موت مَهديِّ الموحدين سيخمد طموح المصامدة، ليفاجأ بجيش عبد المؤمن بن علي الكومي عاد من تِينْمْل ليتم حصار المدينة الحمراء. حين رأى العسكرَ يومها يحيط بالأسوار تحسَّر على ذهاب ريح دولة ابن تاشفين. قرر المكث بعيدا. لم ينس وفاء شيخه القاضي عياض لبيعة المرابطين. أقام في العراء على مشارف المدينة، بين أضراس صخور جليز الضخمة وأنيابِ ليالٍ طويلة باردة، تحمل رياحُها زمهرير جبال دَرْنْ المكسوة بالثلوج. كان يقنت ويتضرع كيلا تسيل الدماء من أجل الكبرياء في الأرض، حين يجن عليه الليل، ويغيب جيش البشر أسفل التلة في طي جيشٍ من النخيل يكسو المنبَسَط. سأله خادمه مسعود ذات ليلة عن سِرِّ كلِّ ذلك النخل المحيط بعاصمة ابن تاشفين..

"- التجار يا مسعود.. كانت القوافل تحط الرحال هنا قبل بناء المدينة، وما يرمون من نوى التمر اكتنفته الأرض بإذن ربها وأنبتته نخلا بغير سؤال.. إنه الإحسان يا مسعود.. "ما ثمة إلا الإحسان!"

كرر لازمته في ظلام الحجرة. ما ثمة إلا الإحسان. ما ثمة إلا الإحسان. ثم سكت. نطقت امرأته بحسها المشاكس:

- والعدل.. يا رجل؟ أين العدل؟

عمَّ الصمت بعد السؤال الثقيل. ثم أخرج الشيخ وجهه. قال والرعشة لم تفارقه:

- أنا حُجَّةٌ الوقت في الإحسان، وستُخرج هذه الأرض يومًا مَن يكون حجةً في الإحسان والعدل، حين يحتمل الزمان تفصيلَ ذلك.. هيا يا ابنة الحاج.. أمديني بدثار آخر!

قامت المرأة إلى مكعب خشبي في الركن المقابل، أخرجت دِثارا أخيرا حملته إليه. سألها مرتعدا:

"- هل بقي من الأغطية شيء؟

- لا.. هذا الأخير.. وإن لم يكفك فأنت مريض..

- مريض؟ كلا.. بل نفسي تحدثني منذ البداية أن في هاته العرصة رجلا يبيت جائعا عاريا يستغيث في صمت.. "

قام بقوة وطوَّح بالأغطية بعيدا عنه، حتى كأن ريحا هوجاء قد هبت من النافذة. التحف بُردتَه وخرج من البيت تحت المطر الأبكم العنيد. وقفت امرأته عند الباب ورأته يغوص في ظلمة الدرب مناديا:

- يا أهل العرصة.. هل فيكم مقرور.. هل فيكم جائع.. لم أستطع النوم..

بلغ نهاية جيرانه الأقربين ولم يظهر أحد. لعلهم ظنوا الصارخ مجذوبا طرَقَهُ حالُه ليلا. مضى في الظلام. دار يمينا وتوغل بين صفين من دُورٍ مغلقةِ صامتة. وصار يطرق الأبواب الواحد تلو الآخر، وكلما خرج أحدُهم سأله:

- يا أهل العرصة.. هل فيكم مقرور.. هل فيكم جائع.. لم أستطع النوم..

- لا يا شيخنا الحال مستور والحمد لله..

مضى في درب ثالث ورابع حتى هم بالرجوع. توقف عند قوس في مدخل أحد الأزقة، ودون أن يحتمي به من المطر طأطأ رأسه حيثُ هو، وأغمض عينيه. أعيته أسباب عالم المُلك، هذا أوان استنطاق الملكوت بهِمَّتِه. سكنَت حركاته تحت الماء المنهمر. صار رجلا آخر غيرَ ذاك المرتعشَ تحت جبل من أغطية. زاد صبيبُ المطر وصارت تُسمعُ لقطراته نبرات. كأنها في ذِكْرٍ جماعي أعاد لها النطق. تارة يُسمعُ لها تسبيح، وتارة تحميد، وتارة استغفار. ثم دخل القوس وتوغل في عمق الزقاق. هناك طرق بابا نحيفا واطئا مطويا على سره لا يسالُ الناس إلحافا. أعاد الطَّرْق. انفتحت الدفة ببطء كأن مِن خلفها مريضا متوحدا قام متثاقلا من فراشه يريد إغاثة من هو أشد كربة منه لعل كربتَه هو تنكشف. أطل رجلٌ مرتعدا في مِلاءة رثة، تبدو دثارَه بالليل ولباسَه بالنهار، على خلفية بيت على صورة صاحبه. خاطب أبو العباس نفسه:

"- ألم أقل لكِ لن تنامي حتى ينام!!"

هرع إلى بيته كالمجنون، وعاد محملا بثياب وأغطية وطعام. ناولها للرجل، وأشاح ببصره عنه كيلا يصادف دموعا مزاجُها خجلٌ وفرح وقهر، وقال:

"- سامحنا سيدي.. لم ننتبه إليك بلطائف الإحسان حتى لسعتنا أفاعي الامتحان.."

**

في البيت طرح أبو العباس ثيابه المبللة المثقلة. دخل فراشه عاريا وجر على نفسه دثارا وحيدا في صمت، وسرعان ما سُمِع غطيطُه.

"- في الحقيقة هذا شأن الملوك يا رجل وليس شأنك.."

حدثت امرأته نفسها، ففاجأها كأنما نامت عينُه ولم ينم قلبه:

"- أيَّ ملوكٍ تقصدين يا امرأة؟ ملوكَ الدنيا أم ملوكَ الاخرة؟".