زاد من ثقل الموارنة وقاوم الفتن... تعرف إلى أصغر بطريرك ماروني في تاريخ الكنيسة

جاد محيدلي

لطالما لعبت الكنيسة المارونية والبطريركية في لبنان دوراً كبيراً في كافة النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وبعدما تم الحديث أخيراً عن إنجازات البطريرك الراحل الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، لا يسعنا الا وأن نتذكر أيضاً يوسف بطرس حبيش وهو البطريرك الماروني الثامن والستون بين 1823 و1845. والذي اعتبر عند انتخابه من أصغر البطاركة الموارنة عمراً إذ انتخب عن 36 عاماً فقط. ولد عام 1787 في ساحل علما قرب جونيه في كسروان لعائلة جون حبيش، وتعتبر عائلة حبيش من العائلات الإقطاعية الثريّة في جبل لبنان وذات الوزن داخل الكنيسة المارونية، تلقى علومه الابتدائية في مدرسة عين ورقة اللاهوتية وتابع في دراسة الفلسفة واللاهوت وأجاد العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية، وعرف عنه النبوغ في تلقي العلوم. صار كاهناً في عام 1814 قبل أن يتجاوز الثلاثين، وعند سيامته الكهنوتية قام بتغيير اسمه من يعقوب حبيش إلى يوسف. رقاه البطريرك يوحنا الحلو إلى درجة الأسقفية بعدها بستة سنوات وعيّن رئيساً لأساقفة طرابلس عام 1820 بعد ستة سنوات فقط من سيامته الكهنوتية. إثر وفاة البطريرك يوحنا بطرس الحلو في 12 أيار 1823 اجتمع الأساقفة الموارنة في وادي قاديشا وانتخبوه بطريركاً في 25 أيار، ونال درع التثبيت من البابا ليون الثاني عشر في 3 أيار 1824 على يد موفده إلى روما، رغم أنه بحسب قانون الانتخابات فقد تم تجاوز نقطتين أولهما أن يكون المنتخب قد تجاوز الأربعين من العمر وثانيهما أن يحصل على ثلثي الأصوات، عموماً فإنه بعد تثبيته لم يشكك أي من الأساقفة في شرعية الانتخاب.


في عهده تم افتتاح سلسلة من المدارس والكنائس وتم تأسيس عدد من الجمعيات والرهبنيات، ويعود له نقل مقر البطريركية المارونية من وادي قاديشا تحديداً في قنوبين حيث استقرت البطريركية منذ القرن الخامس عشر إلى بكركي وهي المقر الحالي للبطريركية. لعب دوراً مهماً على الصعيد الثقافي، بحيث حوّل دير مار عبدا هرهريا ودير مار سركيس وباخوس في ريفون إلى مدرستين عموميتين، وأرسل شباناً موارنةً الى مدرسة المجمع المقدس لمتابعة تحصيلهم العلمي، مذكّراً دائماً بحقوق طائفتِه باستعادة المدرسة المارونية. وركّز اهتمامه أيضاً على إعادة تأمينِ قضاةٍ مسيحيين بعدما حرموا هذا الحق، فاستطاع بحنكته إقناع الأمير بشير الثاني بإعادة فتح محكمة غزير والسماحِ بتعليم شبانٍ موارنة علم الشرع والفقه الإسلاميين. وعلى الصعيد الديني، سعى البطريرك إلى تقوية مدرسة عين ورقة ورفع مستواها، كما أسس مدرسة شبيهة في دير مار عبدا عام 1830، وأسس مدرسة ثالثة باسم مار سركيس وباخوس في ريفون عام 1832، ثم أسس مدرسة غزير بالتعاون مع الآباء اليسوعيين عام 1843 ومدرسة مار شليطا قرب مشموشة، وقد قامت هذه المدارس إلى جانب مدرستي عين ورقة وكفر حي في البترون بتقديم العلوم العامة واللغات إلى جانب اللاهوت والفلسفة. ألزم كذلك الكهنة بتعليم التعليم الديني لأبناء رعاياهم في الكنائس وذلك أيام الآحاد، وبذلك أسس فكرة "التعليم المسيحي" الموجودة اليوم في الكنائس المارونية، وهو ما ساهم في تقليص آثار البعثات البروتستانتية. قام عام 1840 بتأسيس "جمعية المرسلين الإنجيليين" التي كانت مهتمها الأساسية الوعظ والتبشير في القرى المارونية، بهدف نشر ثقافة إيمانية أكثر عمقاً. 

وعلى الصعيد السياسي اضطلع كذلك بدور مهم، إذ كان محطَّ أنظار القناصل الأوروبيين في جبل لبنان نظراً لموقعه الديني ومواقفه السياسية، وتسابقت الدول لاستمالته إلى سياستها وخصوصاً بريطانيا التي هدفت إلى إبعاده عن السياسة الفرنسية، ولم تكن السلطنة العثمانية بعيدة من هذا المنوال. ففي عام 1840 مثلاً قررت الدولة العثمانية ومعها دول الحلفاء وعلى رأسهم إنكلترا استعادة بلاد الشام من الحكم المصري، ووقف البطريرك داعماً للعملية وسُلّح موارنة الجبل بسلاح إنكليزي للمساهمة في طرد إبرهيم باشا، وكانت لفتة البطريرك بخصوص هذه العملية مؤثرة لدى الباب العالي، الذي أمر بتعيين ممثل للطائفة المارونية في البلاط السلطاني أسوة بسائر الطوائف، وقلّد البطريرك أعلى الأوسمة العثمانية، وسمح لكل من فرنسا والنمسا بجمع حملة تبرع لدعم الكنيسة المارونية. ولا شكّ بأن هذين التطورين قد أديا إلى زيادة ثقل الموارنة ودورهم في السياسية اللبنانية، وتصاعد دور البطريركية المارونية، ويعتبر ذلك من مقدمات فتنة 1841 والتي تعتبر أول حرب أهلية في تاريخ لبنان المعاصر .