الأردن... وسياسة المحاور التي أضرّت به

خالد الربيع- أستاذ جامعي

الأردن الذي ظل لعقود على الحياد في سياسته على جميع المحاور حتى في ظل أزماتها الداخلية والاقتصادية، وخلال العقدين الماضيين تغيرت لأسباب أمنية واقتصادية وجيوسياسية فقد أدرك أخيراً أن التعويل على محور واحد في المنطقة وتعطيل الآخر قد أضر بمصالحه السياسية والاقتصادية والأهم من ذلك بمكانته الدينية والمتمثلة في الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في الأماكن المقدسة. منذ عقدين وسياسة الأردن الخارجية مرهونة بالمساعدات الاقتصادية التي تقدمها دول إقليمية وغربية، فالتبعية الاقتصادية شكلت مظهراً من مظاهر علاقات الأردن الدولية كما كانت نقطة ضعف في اتخاذ القرار السياسي، ونتيجة لذلك فقد تراجع دوره في عدة ملفات كان هو اللاعب الوحيد والممسك بزممها كالقضية الفلسطينية مثلاً.

الأردن الذي نسج علاقات متميزة مع أميركا وأوروبا منذ منتصف السبعينات كان يعول عليه لعب دور مهم في المنطقة لكن الاضطرابات والصراعات والحروب الأهلية والثورات التي نشبت بالدول المحيطة به كان لها التأثير الرئيسي في تراجع هذا الدور.

إن المتغيرات التي طرأت على الساحة الأردنية كثيرة سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية كرفض الانضمام إلى حلف بغداد 19 آذار 1956 أو القرار التضامني كقرار دخول الحرب حزيران 1967 أو قرار فك ارتباط الضفة الغربية بالأردن في 31 تموز 1988 لكن لأول مرة يواجه الأردن جميع هذه المتغيرات دفعة واحدة.

من الموكد أن الأردن تجاوز في الماضي إشكاليات عديدة، منها ما يتعلق بنقل الحكم من الملك حسين إلى ابنه البكر عبد الله الثاني 24 كانون الثاني 1999 وليس شقيقه الحسن الذي ظل ولياً للعهد طوال خمسة وثلاثين عاماً، ويشابه ذلك ما حدث في 11 آب 1952 عندما انتقل الحكم من الملك طلال إلى ابنه حسين بسبب المرض، وخلال عشرين عاماً من حكمه استطاع العاهل الأردني وببراغماتية معهودة التعاطي مع المتغيرات والتحديات على الصعيد الدولي والإقليمي والداخلي رغم اختلافهما كالحراك الأردني المواكب للربيع العربي 14 كانون الثاني 2011 أو تظاهرات الدور الرابع 3 حزيران 2018 والتي كانت مشابهة لأحداث 15 نيسان 1989 عندما أقيل رئيس الوزراء زيد الرفاعي.

فالارتدادات على الساحة الأردنية من دول الجوار سواء العراق أو سوريا ولبنان كبيرة، وما يعانيه الأردن الآن من وضع اقتصادي يسوء كل عام إنما هو ناتج من متغيرات سياسية في المنطقة حيث أصبحت هذه الدول ساحة لصراعات ونفوذ لدول إقليمية ودولية مع تراجع الدعم الخارجي من مليار ونصف مليار إلى مليار دولار حيث كان الأردن يعتمد على الغاز المصري لإنتاج 80% من كهربائه ومع المشاكل التي تواجه العراق السياسية والأمنية فقد انخفضت الصادرات الأردنية من 1.5 مليار دولار إلى نصف مليار، وخسر الأردن ما يقارب 40 مليار دولار نتيجة إغلاق الحدود مع سوريا ونتيجة استضافته لمليون ونصف مليون سوري كلف الاقتصاد الأردني إلى الآن ما يقارب الـ 10 مليارات دولار، كلها عوامل ضاغطة على الاقتصاد الأردني الهش. ونتيجة لذلك فقد اضطر الأردن لرفع الدعم وزيادة الضرائب والمحروقات وإلغاء الإعفاءات الضريبية والرسوم الجمركية على السلع لسد العجز في الموازنة العامة مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم وتراجع المستوى المعيشي.

الأردن في الفترة الماضية لم يكن ذا سياسة محايدة أو مختلفة وإنما تابع لمحور الاعتدال وحلفائها، وإذا ما فكر في أخذ مسار مختلف في الفترة المقبلة عن السابق كما يفعل الآن من طريق خلق تحالفات استراتيجية مختلفة لبحث عن عمق إقليمي من طريق تقاربه مع إيران والعراق وتركيا والمغرب وقطر وأخيراً سوريا برفع التمثيل الدبلوماسي وافتتاح معبر الكرامة أو المعبر الحدودي الشمالي أو الاجتماع الأخير بين العاهل الأردني وجماعة الاخوان المسلمين "المصنف إرهابياً في بعض الدول العربية والخليجية" والابتعاد عن الحلفاء التقليديين سوف يكون ذلك مكلفاً وخصوصاً من الناحية الاقتصادية في ظل تصاعد الخلاف بين أميركا وتركيا بشأن شراء منظومة الدفاع الروسية إس-400 أو العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران أخيراً بما يسمى "تصفير نفط إيران"، وهو ما يعرف تجفيف منابع العملات الصعبة التي تحصل عليها.

إذا ما علمنا أن موارد الأردن شحيحة وبالإضافة إلى ذلك يبلغ دينه العام 40 مليار دولار أي ما يشكل 60% من الناتج المحلي وتبلغ فوائد الديون المحلية والدولية 120 مليون دولار كما تبلغ نسبة البطالة 18% رغم أن الأردن يعتبر ثالث أكبر مصدر للفوسفات في العالم والمصنف 90 في الاقتصاد عالمياً.

لكن أكثر ما يقلق الأردن في الآونة الأخيرة هو ما يعرف بعملية السلام أو "صفقة القرن" رغم عدم تأكيد كل ما ينشر لكن ما تسرب منها والذي سوف تعلن قريباً، وبناء عليها، فإن الفلسطينيين سوف يحصلون على حكم ذاتي بمشاركة الأردن تستثنى منه المستوطنات الإسرائيلية الرئيسية وأن الجيش الإسرائيلي سوف يتحكم ويراقب الحدود الشرقية من الضفة الغربية وعلى طول مجرى نهر الأردن وصولاً إلى البحر الميت في الجزء الشمالي منه وعليه سوف يتم نقل الوصاية الهاشمية على القدس إلى المغرب والسعودية مقابل تصفير ديون الأردن واغراءات بالتنمية والمشروعات الاقتصادية لكن جميع القمم العربية وآخرها الذي عقد في تونس 31 آذار 2019 تؤكد على حق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية كما جاء في قمة بيروت 28 آذار 2002 والذي أجمع عليها العرب آنذاك من خلال مبادرة السلام العربية، والأردن الذي له الشرعية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس من خلال اتفاق أردني - فلسطيني وقع في 31 آذار 2013، على أن تتولى وزارة الأوقاف الأردنية الإشراف عليها، لكن قيام ترامب بالتوقيع على ضم الجولان 25 آذار2019 لمصلحة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى القدس في 14 أيار/مايو 2018 يؤسس لعمليات خطيرة على القضية الفلسطينية ويمكن أن تضم إسرائيل بمباركة أميركية جزءاً من الضفة الغربية أو غور الأردن بنفس الطريقة في ظل وجود السيد ترامب الذي لا يرى حاجة إلى تطبيق القانون الدولي في ظل تلويح الأردن بإلغاء اتفاقية الغاز مع إسرائيل وإعادة دراسة اتفاقية السلام.

الأردن الذي راهن كثيراً على عملية السلام مع إسرائيل "وادي عربة" في تشرين الأول 1994 والذي اعتقد أن بتوقيعه قد وضع حدوداً نهائية للأردن وقطع نهائياً على فكرة الوطن البديل للفلسطينيين وقدم نفسه كشريك للنظام الدولي في مكافحة الإرهاب وكوسيط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يرى أن دوره في الآونة الأخيرة بدأ يتقلص من طريق تواصل بعض الدول العربية والخليجية بصورة مباشرة مع الكيان الإسرائيلي، وما اللاءات الثلاث التي أطلقها العاهل الأردني "لا" للتوطين و"لا" للوطن البديل و"لا" لصفقة القرن خير شاهد على قلق الأردن في ظل غياب سفير أميركي في الأردن منذ سنتين ومع تخفيض المساعدات الأميركية المقدمة إلى الأونروا والمهتمة بغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين مع بوادر انسحاب للقوات الأميركية من "قاعدة التنف" القريبة من المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني والتي تشكل حاجزاً ضد الممر الإيراني وميلشياتها من طهران عبر العراق وسوريا ولبنان والتي تعتبر رادعاً للتأثير الإيراني لعدم إقامة الهلال الشيعي والذي تحدث عنه العاهل الأردني في أكثر من لقاء.

لا يمكن أي بلد أن يضطلع بدور سياسي بالمنطقة إذا ما كان مثقلاً بالمشاكل الاقتصادية أو مرهون لسياسة البنك الدولي. على الأردن التوجه إلى مصالحة داخلية لا تستثني أي مكون من مكونات المجتمع وأن يكون جاداً في محاربة الفساد لتصحيح أداء الدولة للوصول إلى منظومة إدارية فاعلة ذات شفافية عالية وليس على إجراءات تعتمد على ردود الأفعال وأن يستعيد عمقه الاستراتيجي الفلسطيني بكل مكوناته مع إعادة تموضع للعلاقات الأردنية الخارجية في ظل رسم لخرائط جديدة للمنطقة "سايكس بيكو جديد " في ظل متغيرات وتحالفات سوف تشهدها منطقة الشرق الأوسط في المنظور القريب.