"أيام بيروت وأنا": الويك أند الأول

انطباعات شخصية، مشاهدات، على مدار الساعة، عن السينما والمدينة وناسهما خلال "أيام بيروت السينمائية"، الطبعة العاشرة - ٢٩ آذار/ ٦ نيسان.


* (ما قبل المهرجان) الثلثاء ١٩ آذار

الساعة ١٣:٠٧: رسالة الكترونية تدعو الصحافة إلى مؤتمر صحافي يُعقد يوم الجمعة ٢٢ آذار، قبل اسبوع فقط من انطلاق المهرجان البيروتي. بحسب المايل، الدورة العاشرة "تتناول قضايا العالم العربي ومنها فلسطين والثورات والتطرف واللجوء والفقر والفساد وتَحرّر المرأة من القيود". مممم. لا ينقص سوى حضور الأمين العام للأمم المتحدة إلى بيروت لتدشين الحفل. لا ملامة. لأن هذه هي أجواء الفنّ اليوم؛ من الصعب لفت الأنظار إلى أي شيء خارج نطاق "مواضيع الساعة" وديكتاتوريتها، أو من دون الامساك بالخيوط التي تفضي إلى القضايا الراهنة. المهرجان، مثل أي مهرجان آخر، لا يصنع بل يعرض الموجود، ولطالما كان ملتزماً الأوجاع العربية والمآسي التي لا تنتهي، من المحيط إلى الخليج، وكان ميدان نقاشات كأنها تحدث فوق البراكين، سواء في زمن الاحتلال الأميركي للعراق أو أثناء حرب تموز ٢٠٠٦. وله، تالياً، شأنه شأن أي تظاهرة، خط تحريري واقتناعات راسخة ومواقف شبه واضحة من الأشياء التي تحصل حولنا. الا ان هذا كله يشبه المشي داخل حقل ألغام في العالم العربي. فهل يمكن مثلاً اعلان مواقف واضحة وصريحة من ممارسات تطال الفنّ، وانتهاكات محورها فنّانون وسينمائيون في دول عربية شقيقة، عندما يكون الواقع على هذا القدر من التعقيد، والعلاقات إلى هذا الحدّ متشعبة ومتداخلة. أم ان المواقف لا تطال سوى غزة؟

• (ما قبل المهرجان) الخميس ٢٨ آذار

الساعة ٢٠:٣٠: أتواعد مع مخرجَين صديقَين، من السودان وتونس، إلى مائدة عشاء في الجميزة. كلاهما هنا للمشاركة في "ملتقى بيروت السينمائي" (٢٩ - ٣١ آذار) الذي ينعقد على هامش "الأيام". الطعام لذيذ، ولكن لا نستطيع ان نعطي الصفة نفسها للشروط التي يعمل في اطارها سينمائي عربي شاب قرر تحقيق فيلم وتجاوز الصعاب. في جلستنا، نأتي على سيرة الفيلم السوداني، "التحدّث عن الأشجار"، الذي نال أخيراً جائزة أفضل وثائقي في برلين. حدثٌ كهذا يضع البلد الأفريقي الذي ثار أخيراً ضد الطاغية البشير على خريطة السينما ويشرّع الباب لسينمائيين آخرين. لم يكن تصوير فيلم المخرج السوداني سهلاً، خصوصاً مع اندلاع ثورة في البلاد. اعترف لي ممازحاً انه ينتظر بفارغ الصبر ان يخرج فيلمه ليلفّ به المهرجانات، ذلك انه كان يشعر أحياناً بأنه متسول، طوال فترة تنقّله بين محطات ايجاد التمويل.

* الجمعة ٢٩ آذار

الساعة ٠٩:٠٠: أنهي كلّ أشغالي كي أتفرغ للمهرجان طوال الأيام المقبلة. بعض الأصدقاء بعث لي برسائل يعلمني عن وصوله الوشيك إلى بيروت. أغطّي سنوياً أكثر من ٢٠ مهرجاناً دولياً، ويعتريني إحساسٌ بالحرج والذنب ألاّ أشعر نفسي معنياً بتظاهرة كهذه تجري في بيروت. المشكلة انه سبق ان شاهدتُ معظم الأفلام المعروضة في "أيام"، وسبق ان كتبتُ مقالات عديدة عنها في الأشهر الماضية. ثم، مع نشوء الصحف الالكترونية، لم تعد حدودنا المدينة. اليوم، القراء (أفضّل كلمة "المتصفّحون") هم عرب في تكساس والخرطوم ودبي وفي أي بقعة من العالم. عليّ بـ"يوميات" اذاً، التقط فيها التفاصيل التي تضيع عادة بين الفيلم والناقد.

الساعة ١٣:٣٠: يصلني خبر رحيل المخرجة الفرنسية الكبيرة أنييس فاردا عن ٩١ عاماً. أحاول جاهداً انهاء المقال قبل السادسة ليلاً لحضور الافتتاح في "متروبوليس". مهمّة: شبه مستحيلة! سيرة طويلة ومتشعّبة مثل سيرتها، تحتاج إلى تدقيق في المعلومات والتواريخ وعناوين الأفلام، الخ. انتهي من العمل على فاردا صوب الساعة الثامنة ليلاً، موعد بدء عرض "عن الآباء والأبناء" لطلال الديركي (عن الجهاديين في سوريا)، فيلم الافتتاح الذي رُشِّح لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي هذا العام، وأحدث مهاترات كثيرة على الـ"فايسبوك". بعضهم باض منشورات فيها من السخف والتحامل والتعالي، ما يدل على قصر نظر في قراءة فيلم والتعامل مع السينما بشكل عام، مع ادراكي التام ان الموضوع السوري حقل ألغام آخر، وقد يحول الحلفاء إلى أعداء في لمحة بصر. جال "عن الآباء والأبناء" على مهرجانات كثيرة، وفاز بالعديد من الجوائز. وصلني ان العرض الافتتاحي في صالتي "متروبوليس" كان ممتلئاً.

* السبت ٣٠ آذار

الساعة ١٦:٠٠: فيلمان في توقيت واحد؟ يجب الاختيار، وبسرعة! الفيلم الأول هو "في عيني" للتونسي نجيب بلقاضي، والثاني "طريق سموني" للمخرج الايطالي ستيفانو سافونا. شاهدتُ الأخير في مهرجان كانّ العام الماضي وجلستُ مع مخرجه، ولكن كان في ودي حضور النقاش الذي يديره الصحافي الناقد في "فرايتي"، جاي وايسبرغ. أما فيلم بلقاضي، فسمعتُ عنه كثيراً، خصوصاً مع عرضه في أيام قرطاج السينمائية. الا ان ما حسم قراري في الأخير هو صالة العرض ("متروبوليس") وقربها من مكان إقامتي. فالطقس عاصفٌ والأمطار المفاجئة في شهر آذار حوّلت الطرق إلى برك ماء. بالاضافة إلى أنني لا أعرف أين تقع بالضبط الصالة حيث يُعرض "طريق سموني" ("دار النمر"). للمناسبة، فكرة توزيع مهرجان صغير كهذا على محاور عدة، لا أجدها فكرة إيجابية بل تشتت الجو، مع العلم ان هذه الصالات ليست سينمات حقيقية، بل متعددة الاستخدام.

الساعة ١٧:٠٠: ألتقي بضعة أصدقاء وأشخاص أعرفهم في ردهة "متروبوليس"، منهم المخرج السوري محمّد ملص، فأسأله اذا كلّ شيء بخير، قبل ان أنتبه، بتلميح منه، لغباوة سؤالي. يقابلني أحد الناشطين في مجال السينما اللبنانية فيخبرني انه تم العثور على نسخة أحد الأفلام الضائعة لمارون بغدادي، وثمة محاولة لعرض نسخة منقّحة لـ"بيروت اللقاء"، اخراج برهان علوية. اسم برهان له رنّة خاصة في اذن السينيفيلي، هذا الذي بدأ العمل في السينما في أواخر التسعينات، حين كان الرجل لا يزال نشيطاً ونراه في المحافل السينمائية. اليوم، ابتعد عن لبنان المنكوب، يعيش في بلجيكا، بعدما تدهورت صحته، ولم يبقَ من جيله أحدٌ غيره. لقاءٌ آخر مع مخرج ربطني فيه مشروع قبل ١٣ عاماً، يحاول إنجاز فيلم طويل، ويروي لي بشيء من عدم الرضا تعاونه مع منظّمات غير حكومية. هذه المنظّمات التي لم يُفَك لغزها تماماً. "باتت هناك قاعدة كاملة من الناس الذين يتحدّثون كأنهم مؤسسة غير حكومية"، أقول للزميل السابق قبل ان أدخل إلى السينما لمشاهدة فيلم بلقاضي عن علاقة أب بابنٍ يعاني من التوحّد.

الساعة ١٩:١٥: أخرج من فيلم بلقاضي مع شعور… أو بالاحرى بلا أي شعور. كانت الصالة نصفها فارغ، ولكن ليس هذا أكثر ما أزعجني. ما يُزعج في الفيلم شيئان: انعدام الإحساس بالمكان، ثم عدم توافر مادة كافية لفيلم كامل من ساعة و٣٧ دقيقة. فور خروجي، ألتقي صديقاً يعمل في المجال التلفزيوني، فيدور نقاش بيننا عن مستقبل الصالة السينمائية. يلومني بأني "ضدّ كلّ شيء"، ولكني لم أنجح في ان أتمرّد على ولائي لطقس مشاهدة الفيلم داخل صالة في زمن التغييرات التكنولوجية.

الساعة ٢١:٠٠: بعد كأس من البيرة مع صديقة في مار مخايل، أنتظر معها نهاية "دريمواي" لحضور النقاش مع مخرجه مروان عمارة. سبق ان شاهدتُ الفيلم في مهرجان كارلوفي فاري وحاورته فيه. في النقاش، تقول فتاة مصرية، لا تزال تحت تأثير الفيلم: "هنا في متروبوليس بشوف الأفلام المصرية وبعيّط".

الساعة ٢٣:٣٠: أنتظر سيارة الـ"أوبير" تحت المطر أمام السينما. خرجتُ من فيلم مرزاق علواش، "ريح ربّاني"، ولا أعرف اذا كنت سأكتب عنه بالتفصيل، أم أكتفي بكتابة "بلا تعليق" عنه في هذا المقال. في الستينات، الناقد ريتشارد راود خسر وظيفته في الـ"غارديان" بعدما كتب عن "صوت الموسيقى" كلمة واحدة: لا. على كلّ حال، من دون إطالة، يجب القول ان معظم الأفلام العربية والأجنبية التي حكت عن "داعش" وجبهة "النصرة" والتنظيمات الإرهابية (وهذا موضوع "ريح ربّاني") حتى الآن هراءٌ بهراء. كي لا نقول شيئاً آخر.


* الأحد ٣١ آذار

الساعة ١٩:١٥: أصل إلى "متروبوليس" لمشاهدة "ليل/ خارجي" لأحمد عبدالله السيد. ألتقي ممثّلا لبنانيا ونتحدّث عن الشللية التي تحكم الوسط السينمائي، والتي منعت أحد الأفلام من الوصول إلى أي مهرجان سينمائي بالرغم من أهليته لذلك. مع سيدة واقفة إلى جنبنا، يتّجه الحديث إلى مسألة الأخلاقيات في العمل السينمائي، انطلاقاً من نموذجي "كفرناحوم" وتصوير طفل صغير و"عن الآباء والأبناء" الذي جعل مخرجه يتسلل إلى داخل عائلة لتصوير أفرادها بعدما انتحل صفة شخص مؤيد لأفكار هذه العائلة. للسيدة مقاربة أخلاقية جداً عن السينما لا أؤيدها. لكنها تعمل في مجال حقوق الإنسان، وأعتقد ان كلانا لا نتكلّم اللغة نفسها.


الساعة ١٩:٤٠: أحمد عبد الله السيد يقدّم فيلمه للجمهور، ويشكره على مجيئه رغم "العاصفة الهوجاء". عاصفة هوجاء؟ ربما لشخص يأتي من بلاد لا تمطر فيها الا قليلاً. الفيلم ذكّرني بـ"بعد ساعات" لسكورسيزي، لكن بنكهة مصرية مئة في المئة وشخصيات "تراش". وفِّق المخرج في هذا المزج بين سينما تحمل بعضاً من هواجسه وسينما تعيد صوغ عناصر الأفلام الجماهيرية وشخصياتها في قالب "محترم". باختصار شديد، الفيلم عن لقاء بين ٣ أشخاص. القليل يجمعهم. أوكي، ربما الأمور أعقد من هذا التوصيف. عمل يجعلك تحس كم ان مصر بلد يسهل التعلّق به، ويصعب الفكاك من "لعنته". صوت شيرين عبد الوهاب يختم الفيلم وهي تغنّي "يا ليالي روحيله". مع بزوغ فجر القاهرة، لا تنتهي المشاكل!


الساعة ٢١:١٥: أخرج من الفيلم وألتقي الناقد الأميركي جاي وايسبرغ وزوجه. ثم بسيريل عريس الذي يستعد لتقديم فيلمه "المرجوحة". من داخل شقّة في الأشرفية يوثّق عريس فصلين من حياة جدّه وجدّته. الجدّ لا يعلم أنّ ابنته الحبيبة توفيت، في حين أنّ زوجه "بتعرف" وتحاول تجاوز المحنة بأقل قدر من الدموع، كي لا توقظ عند زوجها أي شكّ. الفيلم، وهو ممتاز للمناسبة، يُعرَض للجمهور قريباً.