مفهوم الاستقامة:\r\n محنة الوأد الثقافي للمرأة

منى فضل الله- باحثة اجتماعية

يطل شهر آذار وهو يحمل مناسبات اجتماعية مرتبطة بالمرأة. فمن يوم المرأة في الثامن من آذار إلى عيد الأم في الحادي والعشرين منه، وهذه المناسبات تُمثّل تكريماً للمرأة وإن كان هذا التكريم يأخذ الطابع الاحتفالي والصوري. ولكن ربما نحن بحاجة إلى أن تكون كل أيام السنة أياماً لتكريم الإنسان، امرأةً ورجلاً وطفلاً، تكريماً فعلياً وعملياً من خلال التغيير الجذري في النظم الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية، وتشذيبها من كل ما يسيء إلى الإنسان والمرأة في الحياة. ويُشكّل مفهوم الاستقامة نموذجاً في هذا المجال.

الاستقامة هي مصدر "استقام"، وهي تعني الاعتدال والاستواء، فإذا استقام الإنسان فهذا يعني أنه قد اعتدل في سلوكه وكانت أخلاقه فاضلةً، هذا في المعنى اللغوي.

أما في المعنى الديني، فالاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، وهي تمثل اعتدالاً في الأقوال والأفعال من حيث الاستقامة على طاعة الله وأداء الفرائض (فعل الطاعات واجتناب المعاصي) أي لزوم المنهج القويم وعدم الاعوجاج عن طريق الحق.

وهذا المفهوم سواء لغوياً أو دينياً إنما ينطبق على الرجل والمرأة كليهما على حدٍّ سواء، وهو خطاب يتوجّه لهما، فليست الاستقامة (بهذا المعنى الذي ورد) مطلوبة من الرجل وغير مطلوبة من المرأة، إنها مفهوم يتعلق بالإنسان بشكل عام سواء من ناحية اللغة أو من ناحية الدين. ولغة القرآن تخاطب النساء كما الرجال وتضعهما على قدم المساواة، سواء من حيث المسؤولية أو من حيث اقتراف الخطيئة {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ}.

أما على مستوى الواقع الاجتماعي نجد أن اللغة العامية المتداولة تربط مصطلحات عديدة بالمرأة مثل "العيبّ" و"التجريس"... ناهيك عن الأمثال الشعبية التي ترى "سترة" الفتاة في زواجها بحيث إنها إذا لم تتزوج فهي لن تحقق الغاية من وجودها. وتمتدّ هذه النظرة حتى في أوساط بعض المثقفين والمتعلمين الذين ينظرون إلى المرأة المثقفة العاملة التي لم تتزوج على أنها "معقّدة"، وهذا يبدو في التعليقات والنكات وزلاّت اللسان.

هذه الأحكام جاهزة لِتُلقى على المرأة، ويمتد ذلك إلى مفهوم الاستقامة، فحياة المرأة لا تستقيم ولا تعتدل ولا تكتمل إلاّ من خلال الإنجاب الذي يغدو من خلال هذه النظرة النمطية هو الغاية من وجودها، ومن دونه لا تتحقّق ذاتها وليس لحياتها أي معنى، وهذا ما يظهر في عيون الناس وتعليقاتهم مهما بلغت هذه المرأة درجة عليا من العلم والثقافة والوعي. ولذلك، نجد أن تعبير "استقامت" يُستعمل للدلالة على الحَمْل بالنسبة للمرأة، فالحمل هو الذي يجعل من حياتها معتدلة ومستقيمة. وهذه الثقافة الشعبية لا تعبأ إلاّ لهذا الجانب المرتبط بالمرأة، ولا تُعير اهتماماً لما سواه.

فعلى مستوى المعاني والدلالات ومن حيث بنية الوعي، نجد أن هذا الخطاب المُنتج في هذه الثقافة هو الخطاب السائد والمسيطر بحيث تبدو فاعلية المرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية فعالية هامشية ولا تعني شيئاً مقابل فعالية الزواج والإنجاب. إنه خطاب شعبي يتم إنتاجه على نغمات التخلف.

وهذا التخلُّف قد يتوسّل لغة الدين أو السياسة أو الاجتماع فيُحافظ على هذا المعنى، وكما نعلم، فإن سلطان العادة أنفذ من كل سلطان.

بهذا المعنى يُختصَر دور المرأة داخل جدران المنزل بعيداً عن التطور العلمي والعملي في السياق الاجتماعي، وتتلقى وعيها بشكل سلبي عبر أجهزة الإعلام دون أن يُتاح لوعيها فرصة النضج الإيجابي الحرّ عن طريق التواصل الاجتماعي مع المحيط الثقافي والعلمي. وبعبارة أخرى يصبح التركيز على تفرُّغ المرأة للزواج والإنجاب لتحقيق ذاتها على مستوى الثقافة الشعبية ــ في دلالاتها الأعمق ــ دعوةً لجعل عملية التربية والتنشئة من مهمة أجهزة الإعلام والشركات الكبرى التي تقف وراءها والتي تصوغ الوعي وتصنع النموذج.

وبالتالي، فإن التركيز على البعد البيولوجي الطبيعي يؤدي في الواقع إلى نفي المرأة كائناً إنسانياً من خلال استبدالها بالأنثى.

فالنظرة إلى المرأة تصبح في هذا المجال تُمثّل نظرة إلى الأنثى في الأساس، ومن ثم نجد ارتباط مصطلح "استقامت" مع الحَمْل والإنجاب بعكس ما تراه بالنسبة للرجل الذي لا ترتبط حياته بالنسبة لهذه الثقافة السائدة بمسألة الإنجاب كما هو حال المرأة، ومهما كان من ضغط اجتماعي عليه في هذا المجال فهو لا يمثِّل نسبة بسيطة جداً ولا تُذكر مقارنة بما تعانيه المرأة وبما يطالها من ناحية هذا الضغط.

إن هذه اللغة وهذا الخطاب يظلمان المرأة ويحصران دورها ويُهمِّشاها، ورغم التغيُّر الذي يُلاحظ بالنسبة لهذه النظرة لدى بعض الفئات في المجتمع إلاّ أن مفاعيل ودلالات هذه الاصطلاحات ومستوى دلالاتها ومعانيها لا تزال تؤثّر في الوعي الجمعي الذي يحتاج إلى الكثير من التوعية للخروج بالمرأة من هذا الواقع الذي يجعلها ترزح تحت إطار التقليد والتخلُّف والصور النمطية التي تؤثّر على حياتها بشكل كبير.

فهذه اللغة تمثّل مرتبة من مراتب الواقع، وهي مرآة تكشف قواعد الارتباط بين مفرداتها ومحطات الكلام، والصمت في سياقها، ومواقع المتداولين بها، كما تكشف المواقع الاجتماعية والمواضع السلطوية وشبكات القوة والقدرة والفعل في الأُطر العائلية والاجتماعية عامة، فما كتبته اللغة العادية المحكيّة عن المرأة يرسم مصيرها وتُعَيّن بالعيب والتجريس وطلب الإذن والسترة... إلخ، مواضع كلامها وتجعل الصمت في صلب وجودها وطبيعتها.

وكما تختلف عن الرجل شكلاً وجسداً فهي تخلف عنه في عقليتها وفكرها كما تقول الثقافات التي تمادت في تهميشها، ولكن بالمعنى السلبي، فالرجل عقلاً والمرأة جسداً، هذا في مقالات سقراط وأفلاطون وداروين ونيتشه والمعرّي والعقّاد وفرويد وبودلير الذي جعلها مليكة الخطايا في إحدى قصائده.

لقد تهمّشت المرأة وغابت عن محاورات أفلاطون، وهناك تغليب الذهني على الحسي، فالمرأة تملك العلاقة الحسية الفطرية من داخل رحمها المؤنّث الذي يحمل بالحياة المعلنة، أما الرجل فعلاقته ذهنية مع النسل ويمدّ أواصره مع الحياة عبر هذه العلاقة اللغوية.

وشواهد التاريخ تشير إلى حق أصلي للمرأة من جهة، وإلى استلاب جماعي ومستمر من جهة ثانية، غير أن الديانات السماوية أكرمت المرأة وأعطتها حقها، فالدين وحياً منزلاً فطرياً، أما الثقافة فهي صناعة بشرية، والذي مارس وأد البنات في الجاهلية ظلّ يمارس الوأد الثقافي ضدهن، إنها "محنة الوأد الثقافي".

هذه الرموز والمفاتيح تمثّل مفاهيم تحمل دلالات ذات فعالية في الواقع الأسري وتحدد مصير الأنثى لِما يترافق معها من ركود وتمييز بين الجنسين ما يزال قائماً رغم أن الله سبحانه وتعالى لم يكرم الإنسان على أخيه الإنسان إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.