أرغبُ في الفراق شابّاً على رغم تعلّقي بالحياة

جورج يرق

لم أتوقّع أن أعود إلى الشاليه وأرى ما رأيت.

لولا الرقم أعلى الباب، لظننتُ أني أدخل الشاليه الخطأ. كنت فتحتُ الباب واجتزتُ العتبة، ثم تراجعتُ ونظرتُ إلى الرقم عندما وجدتُ التغيير شبه التام في الداخل.

لمّا تأكد لي لستُ مخطئاً، غلقتُ الباب ودخلتُ. رحتُ أنظر مذهولاً إلى انحاء الغرفة. إذّاك فهمتُ لماذا طلبتْ إليّ رامونا أن أُخلي الشاليه ثلاث ساعات ريثما تستطيع الفتاة السري لانكية، ميلا، كنسها ومسحها بعد مضيّ شهرين على آخر جولة تنظيف. كذلك فهمتُ أن هذه السيّدة تحسن صنع المفاجآت، ولا تهنأ لها الحياة إن لم تأتِ في كلّ لقاء مرتقب فعلاً غير متوقّع.

الديكور تغيّر تمامًا. طقم كنبايات بدلاً من الطقم القديم. بالونات حمراء على شكل قلوب تزّين الغرفة. مغارة من خشب وتبن صغيرة مع الشخوص المرافقة للطفل يسوع، وشريط من اللمبات المضاءة يطوّق المغارة. باقة من الورود الحمر أيضاً، يتوسّطها بالونان على هيئة قلب، واحد أحمر يتصدّره قلب أبيض صغير، والثاني ملوّن.

بين البالونين بطاقتان حمراوان معلّقتان ببيْرَقيْن من البلاستيك.

على الأولى: "يا قلبي، عيد ميلاد سعيد في مناسبة بلوغك الخمسين. أتمنّى أن أمضي سنة أخرى معك، وأنعم بمزيد من حبّك. أعشقك". ووقّعتها بالحرفين الأوّلين من اسمها وكنيتها الحقيقييّن.

وعلى الثانية: "يا حبّي، سنة أخرى أودّ أن أمضيها رفقتك، زاخرة بالحبّ والحنان والسعادة. أتمنّى لك حياة ملأى بالحبور والعافية. أحبّك". والتوقيع "Ta Papillon"، أي فراشتك. هو اللقب الذي كنتُ أطلقتُه عليها، وراقها. واعتدتُ مناداتها به حتى إنّي صرت أجد اسمها الأصلي غريباً.

أجهل لماذا أرفقتْ بالباقة بطاقتين تحتويان على العبارة نفسها تقريباً. ما انتبهتُ لهما حين رأيتُهما منتصبتين في تربة الباقة. كانتا مقفلتين. ظننتُهما للزينة. لو لم تلفتني رامونا في آخر المساء إلى أن أفتحهما لما فعلتُ.

لم أحتفل طوال حياتي بعيد ميلادي احتفالاً كهذا. لستُ مطلعًا على معظم الطقوس المرافقة لهذه المناسبة. كنتُ إذا شئتُ أن أهدي إلى أحد الأصدقاء شيئاً في عيد ميلاده، اخترتُ كتاباً أو اثنين، أو "سي. دي." غالباً لفيروز، أو لوحة أشتريها من رسّام مغمور بعد مساومة شرسة على الثمن. لم أكن أُلحق الهدية بكلمة معايدة ما دمتُ سأسلّمها باليد إلى صاحب العيد.

شاهدتُ على طاولة الشرفة المطلّة على البحر، علبة مربّعة كبيرة. أدركتُ أنّها تحوي قالب الكاتو من اسم الباتسيري، وهي واحدة من أشهر الباتسيريات.

قرب العلبة شمعتان حمراوان من الطراز الذي يُحدث شهباً لدى إشعاله، وورقة مكتوب عليها بالفرنسية ما معناه: "رجاءً، لا تفتح العلبة في غيابي".

منذ زمن بعيد، لم أعش مثل هذه الإثارة التي تخالطها دهشة الترقّب وغرابة المشاعر التي ساورتني حالما وطئتُ الشاليه.

تأمّلتُ العلبة.

هممتُ أن أرفع الغطاء. ثم أعدلتُ احترامًا للمفاجأة.

لعلّ في هذا الطقس سرّاً لم يسبق أن خَبَرْته لقلّة مشاركتي في مناسبات مماثلة.

في أيامنا، أيام الطفولة والفتوّة، لم يكن أحد يتذكّر اليوم الذي وُلد فيه، ولا ينتظر هدية إلّا في عيد الميلاد. وطالما خذلني بابا نويل الذي كان يزور غالبية رفاقي ما عداني. ليس جميع الأطفال يحبّون هذا العجوز الذي يقود الغزلان وعربة الهدايا على الثلج. وأنا كنت واحداً منهم.

كانت العطلة والتسلية مع الجنرال الأبيض أجمل هديتين يحملهما إلينا، نحن التلامذة، عيد الطفل يسوع. بالإضافة إلى متعة المشاركة في تزيين المغارة، ومشاهدتها ليلاً بأضوائها المتقطعة.

أعترف أنّي أفضّل عيد الميلاد على عيد الفصح، مع أنّي أعلم مدى أهميّة الثاني الذي يمثّل قيامة المسيح. والقيامة هي عماد الدين المسيحي.

حتى عندما مضيتُ إلى الخمسين، لا أذكر أنّي احتفيتُ بعيد ميلادي.

مرّات كنت أتذكّره بعد عبوره بأيام.

مرّات تُذكّرني به أمّي التي تذكّرني أيضاً بمواعيد أعياد ميلاد أخواتي وأخي، طالبةً إليّ أن لا أنسى واجب المعايدة. هذا الواجب أنفّذه شفويّاً بمكالمة هاتفية. أمّا بعد ظهور وسائط الاتصال الحديثة فبتّ أنفّذه كتابةً بطريق الـ"واتسآب" أو الـ"فايسبوك" أو الـ"تويتر".

علمتُ أنّ المرء في عيد ميلاده الخمسين يستحقّ احتفالاً خاصّاً لا يشبه الاحتفالات السابقة اذا كان ممن اعتادوا الاحتفاء بالعيد.

أخبرتني رامونا بذلك في أول السهرة.

لم أعِ ما الصلة بين هذه المحطة من العمر والاحتفال الاستثنائي.

هل الخمسون هي الشرفة التي تطلّ على المقلب الآخر من الأيام المقبلة، مقلب الشيخوخة، إذا أطال الله العمر، مع ما يواكبها من أمراض وتحسّر على الأمس وقلق الدنوّ من الموت؟

سؤال لم أقف عليه.

أرغب في الفراق شاباً على رغم تعلّقي بالحياة. في العجز مذلّة وفي المرض إهانة. اللّهم استجب دعائي.

أتذكّر أصدقاء لي رحلوا باكراً، فلبثوا في الذاكرة وسيمين معافين خلافاً للذين عرفتهم شباباً وغادروا بعد معاناة من مرض أو مسنّين.

أتذكّر حكايات أبطالها رجال ذوو كبرياء رفضوا وهم يُحتضرون أن يعودهم الأحبّة، حفاظاً على صورهم التي عُرفوا بها قبل اقتراب الساعة.

استحممتُ واستعددتُ. رامونا ستصل. رششتُ بعض العطر من القنينة التي جلبتها لي من أثينا، وارتديت البذلة الكحليّة التي اشتريتها وثلاثاً أُخر قبل نحو سنة، في موسم التنزيلات. ولم أرتدها سوى أربع مرّات. المناسبة جديرة بأن أبدو متأنّقاً.

تالياً لا بدّ من خرق الروتين، إذ جرت العادة على أن أبقى في الـ"شورت" والـ"تي شيرت" لدى استقبال رامونا التي لم تعيّن لي موعد مجيئها تعييناً دقيقاً.

قالت أراك في المساء.

المساء طويل. من الممكن أن تأتي في السادسة أو في العاشرة.

لبستُ عندما حلّت العتمة، ووضعتُ السترة على كتفَي الكرسيّ ولبثتُ في البنطلون والقميص. هكذا يمكنني أن أستلّ السترة سريعاً وارتديها حالما أسمع صوت غلق المصعد أو نقرات كعب السكربينة، وهما الإشارتان اللتان تمهّدان دوماً لوصول رامونا. فأهبّ إلى فتح الباب وهي على وشك قرع الجرس.

كانت هذه البادرة تفرحها لأنها تدلّ على مدى تلهّفي. فتضحك حالما تراني.

كنتُ، بهذه الخطوة، أثبت لها أنّي ما زلت أنتظرها تماماً مثلما كنت أفعل في مطلع تعارفنا. لا بل اليوم بات انتظاري يأخذ أبعاداً جديدة بعدما أُغرمتُ بها.

في أثناء الانتظار، حاولت أن أقرأ. القراءة والكتابة وحدهما تجعلان وطأة الوقت محتملة. مجموعة من الروايات مبعثرة على الطاولة. ما إن أقرأ صفحتين من إحداها حتى أتخلّى عنها وأتصفّح أخرى فثالثة فرابعة ثم أتركها كلها سريعاً. خَصْلةٌ بشعة ما استطعتُ الخلاص منها.

ما يحدث هو أنّي لا أقدر على لجم رغبتي في الكتابة بعد قراءة بضع صفحات، فأترك كلّ شيء وأفتح اللابتوب وأبدأ.

فيما كنت أكتبُ أفكاراً مشتتة، ترامى إليّ صريرٌ حسبته صرير باب المصعد، فوثبتُ نحو الباب بعدما رفعتُ السترة عن الكرسي، وارتديتُها.

رحت أنصتُ لعلّي أسمع وقع قدمين. لم أسمع سوى هدير المكيّف وصوت خافت مصدره شاليه جيراني الأرمن الذين لا يرفعون صوت التلفزيون إلا خلال نشرة الأخبار.

لم أكد أوصد الباب حتى سمعتُ صوت غلق باب المصعد تلاه صدى خطى على نغمة واحدة.

إنها هي.

مشيتها ذات إيقاع يمكن تمييزه على الفور.

ثمة نساء لا يتعبن كثيراً كي يبدَوْن مميزات. يولدن وتولد فيهن خصال تمنحهن كاريزما تجهد الأخريات عبثاً لحيازة قبس منها، بجراحة التجميل والرياضة والحمية.

رامونا واحدة من الفئة الأولى.

حين رأتني في البذلة واقفاً قبالتها، استغربتْ. واستعجلتْ إخفاء استغرابها بأن عانقتني ببعض الحذر كي لا يعلق شيءٌ من حمرة شفتيها بياقة قميصي.

كانت على مألوف إطلالتها، أنيقة وجميلة.

وكانت تحمل ثلاثة أكياس ملأى.

رغبتْ أن أتركها وحدها في المطبخ كي تعدّ لوازم الكأس. الحدث مهمّ على قولها. ولن تدعه يمرّ من دون أن نشرب نخب الخمسين.

زخرتِ الطاولة الصغيرة في الصالون بالأطايب. وراح صوت اندريا بوتشيللي يواكب رنين كأسَيْنا كلما تبادلنا النخب والقبلات. تحدّثنا عن كل شيء. عن تفاصيل لقائنا الأول في أحد فنادق جبيل. عن ممارستنا الحبّ في لقائنا الثاني وهي في عزّ ميعادها بعد تعذّر كبح جسدَيْنا. عن مغامراتها في عمر المراهقة، وعن الشاب الذي أحبّته أربع سنوات ثم هجرته بلا سبب. عن أحلامنا المهدورة. عن أحلامنا التي لا تزال تنتظر موعد تحققها إذا أعطانا الله الصحة ومزيداً من العمر، فحياة واحدة لا تتسع لها كلها.

ثم بلا إنذار، أخذتْ تخلع ثيابها بعدما شعرتْ بالدفء جرّاء هواء المكيّف ومفعول الخمر. استبقت السوتيان والسترينغ فقط.

ودعتني إلى التحرّر من البنطلون والقميص.

كنتُ منزعجاً منهما إذ اَلِفت الجلوس في ثياب مريحة. وما إن سمعتُ الدعوة حتى دخلتُ إلى غرفة النوم ونزعتُهما وارتديتُ شورتاً أسود وتي شيرت خضراء.

شككتُ في براءة الدعوة.

سرعان ما تبيّن أن شكّي في محله عقب المداعبات التي فتحت لنا باب الجنّة، أو بوّابة النار، لستُ أدري.

في اللحظة الحاسمة، كبا جوادي بعد قليل من الانطلاق. ولا حياة لمن تنادي على رغم المحاولات الحثيثة.

يا له من جواد شحيح الوفاء.

خذلني في ليلة عيد ميلادي مع أنه، في الأيام العادية، يبلغ حاجز الختام ويبقى مستعداً لخوض السباق مجدداً، كأن شوطاً لم يكن.

خذلني هو وحردتْ هي. ردّت الكبوة إلى أني أفكّر في امرأة أخرى، إلى فتور اشتهائي لها، إلى أسباب وافرة لم يكن أيٌّ منها صحيحاً.

لم تصدّق أنّ ليس لي سلطة على الجواد، وأنّه لطالما خالف مشيئتي وطبّق رغبته لا رغبتي.

أدهشني رأيها، وهي منذ مستهل السهرة لمست قوّة انجذابي إليها، ومدى إعجابي بها، من شعرها الجميل إلى قدميها اللتين أشبه بتحفتين.

وتغزّلي الدائم بعينيها وبنهديها شاهد إضافي.

لم تقتنع بالوضع المستجدّ. قالت إنها لم تعتده سابقاً، وإنها لم تصدق ما جرى، ولن تسامحني.

استغربتُ موقفها المتشدد.

هل يعقل ألّا تعرف امرأة في مثل عمرها أن الرجل لا "يمون" على جواده؟

كيف يخطر في بالها أني لا أشتهيها وأنا المتحرّق للنوم معها؟

ألم ترَ الشهوة تبرق في عينيّ، وتضجّ في جسدي؟

ألم تلاحظ طريقة تقبيلي لها، كأني لم أقبّل امرأة منذ زمن طويل؟

كيف تظنّ أني أفكّر في امرأة ثانية، وهي وحدها التي جعلتني أشعر أن النساء لسن متشابهات، وأن امرأة واحدة تكفي لتملأ حياة الرجل، ولتغدو ملكة أحلامه. فالرجل يذهب إلى نساء أخريات بحثاً عن امرأة فريدة بنات جنسها، ليبني وإياها فردوساً خاصاً. وإذ يلتقيها يتوّجها عروس فردوسه ويقلع عن المضي في مغامرات بائسة.

بحثتُ. وتوقّفتُ عن البحث عندما عثرتُ على رامونا. وأحببتُها.

بذلتُ جهداً لاسترضائها. أفهمتُها أن هذه الكبوة ليست آخر الدنيا. السهرة لم تزل في بدايتها، والأمل كبير في أن يسترجع الجواد حماسته ويستأنف السباق إلى أن يبلغ بها الخاتمة السعيدة.

أفصحتْ أنّها تحبّ طريقتي حين أتودّد إليها مطيّبًا خاطرها.

قالت إن الحنان الذي أغمرها به في تلك اللحظات يُشعرها بأنها محبوبة ومشتهاة. ويجعلها تحسّ بعمق عشقي لها.

وقالت إنّها منجذبة إلى الكلام الذي أبوح به عندما أسترضيها لأنه يأخذها إلى السماء ويُريها العالم أكبر من قبلة وأصغر من عناق.

وأنا حين تزعل أضيع، ينتابني شعور ممضّ، شعور يساور من أوشك أن يفقد شخصاً عزيزاً. ولا أتردد في فعل المستحيل كي ترجع البسمة إلى عينيها الخضراوين.

حالما انتقلنا الى السرير في غرفة النوم، أعاد الجواد الاعتبار إليّ. امتزجتْ تأوّهاتها لدى بلوغها الرعشة بصدى ضربات الموج على الصخور المجاورة. وتفاديتُ أن أُنزل على أمل تكرار المحاولة لاحقاً. استرحنا متعانقَيْن كأنّها لم تكن غاضبة قبل دقائق، وكأني لم أسترضها مستخدماً جميع أساليب الإقناع.

الثانية عشرة.

حان موعد قطع قالب الكاتو. قصدنا إلى الشرفة حيث يتصدّر الطاولة. مفاجأة أخرى في انتظاري. رفعتْ غطاء العلبة فرأيتُ صورة تجمعنا معاً مطبوعةً في وسط القالب. صورة من أجمل صورنا الكثيرة. كانت التقطتها صديقة لها بهاتفها الموبايل في أحد المقاهي.

للحال وجدت تفسيراً لما حدث قبل بضعة أيام. ففي ذات ظهيرة، كتبت لي بالفرنسية على الـ"واتساب" طالبةً أن أختار صورة لنا، نحن الاثنين، تعجبني، وأرسلها إليها. ففعلتُ.

لم أشكّ ثانيةً واحدة في أنها ستستخدمها لهذه المناسبة مع علمي أنّها تعرف موعد عيد ميلادي.

كانت قبل مدّة بعثتْ إليّ بصورة مماثلة لأمّها وأبيها في مناسبة مرور أريعين عاماً على زواجهما. لكنّي مع ذلك لم أفطن إلى السبب الكامن وراء طلب الصورة. متاعب الحياة تجعلنا أحياناً لا نعير الشؤون العابرة اهتماماً، وطلب صورة ليس شأناً يستحقّ التفكير.

شاركتني في القبض على السكّين الذي من المفترض أن يكون حدّه إلى فوق، ووجب عليّ أن أضمر أمنية قبل مباشرة القَطع. هذه من طقوس الاحتفال. ضمرتُ.

فيما اكتفت هي بشرحة من الكاتو اللذيذ حفاظاً على نظام الحمية الذي تتقيّد به، استزدتُ أنا غير مرّة. اِثنان لا أستطيع مقاومتهما: الشوكولا وفاكهة الخرمة.

المفاجأة الكبرى عندما صارحتني بأنها ستنام الليلة، هنا، في الشاليه. قالت إنّها تحبّ أن تغفو على صدري وهي تستمع إلى صوت الهواء ووقع حبّات المطر على النافذة.

مارسنا الحبّ مجدداً.

انتظرتُ أن تسألني عن أمنيتي المضمرة. فلم تفعل.

تمنّيتُ أن تستمرّ علاقتنا سنةً أخرى ونحتفل معاً بعيد ميلادي الحادي والخمسين.

• فصل من رواية عنوانها "هذا أيضًا سوف يمضي" ستصدر لدى منشورات "دار مختارات".