عقد الزواج المدني غير ممنوع قانوناً

جوزف بشارة- كاتب عدل

في ضوء النقاش الذي أثاره موقف وزيرة الداخلية من مسألة الزواج المدني، قد يكون من المفيد تسليط الضوء على مكتسبات قانونية تحققت وأضحت حقوقاً مكتسبة للمواطنين يقتضي العمل تفعيلها وإزالة كل العراقيل والممارسات غير القانونية التي تعوق التمتع بها.

‎ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن أهم خطوتين على طريق تشييد الدولة المدنية المنشودة التي تحفظ بالتوازي حقوق الجماعات والأفراد، كانتا من توقيع المواطنين أنفسهم، وقد تجسد ذلك عبر تكريسهم حقهم في شطب الإشارة إلى القيد المذهبي من سجلات أحوالهم الشخصية ومن ثم عبر توقيع وتنفيذ أول زواج مدني يعقد على الأراضي اللبنانية، والزيجات المدنية التي تبعته مع ما يعنيه ذلك من ولادة قانونية كاملة للمواطن اللبناني الحر من دون أن يؤدي ذلك إلى المس بحقوق الجماعات كل ذلك تحت سقف الدستور والمواثيق الدولية والقوانين التأسيسية للدولة اللبنانية، وقد حصل ذلك في لحظة تاريخية دقيقة وفي عز صعود الدعوات الأصولية من جهة وطروحات الدول القائمة على الهوية الدينية من جهة أخرى.

ومن هنا، فإن خلاصة المرحلة السابقة التي يفترض أن تكون نقطة الانطلاق للمرحلة المقبلة تتمثل في كون "المواطنة" قد أصبحت حقيقة ملموسة قائمة وأن "الحقوق" الأساسية "الملازمة لها" محفوظة بموجب النظام القانوني اللبناني بحيث ينبغي أن يشكّل ذلك نقطة الارتكاز لأي حوار مستقبلي بنّاء يسير بنا قدماً ولا يعيدنا إلى التجمّد في نقطة الصفر.

لا شكّ أننا أمام ملف دقيق يتداخل فيه القانوني بالفلسفي بالديني بالعوامل المدنية والإدارية، كما يعكس جدلية العلاقة ما بين الذهنية الموجودة والنصوص القائمة.

ولا بدّ لي، قبل الدخول في الإطار القانوني لصلاحيات كتاب العدل والجوانب العملية لإبرام عقد الزواج المدني، من أن أورد لكم بلمحة سريعة، بعض المرتكزات الدستورية والقانونية التي يجب تتبّع سياقها التاريخي لإيضاح كامل الصورة واستخراج الخلاصات المناسبة.

* في العام 1926 صدرَ الدستور اللبناني الذي تضمّن مبادئ دستورية واضحة، وفي طليعتها حرية المعتقد المطلقة، والمساواة بين المواطنين في الحقوق المدنية والسياسية.

* في العام 1936 صدر قرار 60/ ل ر الذي جمع بين مراعاة خصوصية الطوائف في لبنان، وقيَم حداثوية مستمدة من فكر الجمهورية في فرنسا وفي طليعتها حرية الضمير والاعتراف بالفرد، وحقّه في ترك الطائفة أو في اعتناق طائفة آخرى، وقد أشار القرار المذكور إلى فئة من اللبنانيين لا ينتمون لطائفة ما وأخضعهم للقانون المدني في أحوالهم الشخصية.

* في العام 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نصّ على مجموعة من الحقوق الأساسية الجوهرية، واعتبرها مرتبطة بشخص الإنسان وجوهره دون أن يكون مصدرها التشريع أو أية إرادة خارجية أخرى، بل حقوق أساسية مرتبطة بكيانه الإنساني وغير قابلة للتنازل عنها(INALIENABLE).

– وطبعاً أُرفقت بعدة مواثيق وعهود دوليّة أَكملت وأوضحت هذه الحقوق -

* في العام 1990 أُدخل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتّحدة في صلب القانون الدستوري اللبناني حيث ذكرت مقدمة الدستور أن لبنان يلتزم مواثيق الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتجّسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون إستثناء - والمجلس الدستوري جزم أن مقدمة الدستور بقوة الدستور - أي أن الإعلان المذكور أصبح جزءاً من النظام القانوني الداخلي، وأصبحت الحقوق الإنسانية المنصوص عليها في الإعلان حقوقاً دستورية أساسية واجبة التأدية حالاً.

* في العام 2009 صدر تعميم عن وزير الداخلية الاستاذ زياد بارود بعد أخذ الاستشارات القانونية اللازمة، منعَ بموجبه المنعَ، أي منعَ مأموري الأحوال الشخصية من رفض طلبات شطب الإشارة إلى المذهب.

وهنا نصل إلى طرح الواقعة حيث إن لبنانياً ولبنانية قاما بالشطب ولا ينتميان إلى طائفة ما إدارياً، يريدان عقد زواجهما بشكل قانوني لدى الكاتب العدل على الأراضي اللبنانية.

وهنا تطرح الإشكالية التالية:

I – في مدى اختصاص الكاتب العدل بالنسبة لإبرام عقد الزواج المدني.

II – شروط إبرام هذا العقد.

I - الكاتب العدل مختص قانوناً لإبرام عقد الزواج المدني في لبنان.

• تنص المادة 22 من قانون تنظيم الكتاب العدل:

يقوم الكاتب العدل بتنظيم والتصديق على الأسناد المنصوص عليها في قانون الموجبات والعقود وبصورة عامة على كل سند لا يمنعه القانون أو لا يكون حصراً بموجب نصّ خاص من صلاحية موظف عام آخر.

إذاً، المبدأ أو القاعدة هي جواز المصادقة على كافة الأسناد، وهذه القاعدة من ضمن القواعد التي تعكس رغبة المشترع في أن لا يؤدّي فراغ تشريعي ما إلى إسقاط حق من حقوق المواطنين.

والحدّ لهذه القاعدة هو أن يكون سنداً لا يمنعه القانون أو لا يكون حصراً بموجب نصّ خاص، من صلاحية موظف عام آخر.

 – عقد الزواج المدني غير ممنوع قانوناً

في العودة إلى النصوص القانونية التي ذكرناها بدايةً يتّضح لنا ملّياً أن عقد الزواج المدني لا يمنعه القانون، بل أكثر من ذلك هو حق مكرس في الدستور والمواثيق الدولية والقوانين الداخلية.

فالدستور ضمَنَ للمواطنين تمتّعهم بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية دونما فرق بينهم، وكفل حرية المعتقد المطلقة، وضمَنَ للأهلين على اختلاف مِلَلِهم احترام أحوالهم الشخصية، (المادتان 7 و 9)

كما هو حق مكرّس بوضوح في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 16 منه التي تقول "للرجل والمرأة ممن أدركا سن البلوغ حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق، الجنسية أو الدين، وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.

إضافةً إلى العهود الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، وإلى توصيات اتفاق الرضى بالزواج، والحدّ الأدنى لسنّ الزواج، وتسجيل عقود الزواج الصادرة عن الأمم المتحدة في العامين 1962 و1965.

كما أن هذا الحق مكرّس في القرار 60 ل ر الذي تحدث عن فئات ثلاثة:

الفئة الأولى 

الطوائف ذات النظام الشخصي، وتشمل الطوائف التاريخية والتي وضع القانون شروط الاعتراف بها وبشخصيتها المعنوية، والشخص المنتمي لهذه الطوائف يكون زواجه دينياً بحسب أنظمة هذه الطوائف.

الفئة الثانية

من يكون منتمياً إلى طائفة تابعة للحق العادي، وهي طوائف جديدة يمكن أن تنشأ، لديها رجال دين ولها شروطها، ويخضع من ينتمي إليها للقانون المدني في أحواله الشخصية.

الفئة الثالثة 

هم اللبنانيون الأفراد الذين لا ينتمون لطائفة ما، يخضعون للقانون المدني في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية، الأمر الذي تكرّس عملياً بموجب تعميم وزير الداخلية ومبادرة عدد من الأشخاص إلى ممارسة حقهم في الشطب، أي أن هؤلاء الأشخاص ملزمون بالزواج المدني، وهذه الفئة تختلف عن طائفة الحق العادي، ولم توضع عليها شروط محددة للاعتراف بها على اعتبار أنهم لا ينتمون إلى أية طائفة ولا وجود بالتالي لرجل دين، فيكون زواجهم حكماً من صلاحية مرجع مدني.

كما أنه حق مكرّس في القانون العام الذي هو قانون الموجبات والعقود الذي ذُكر في المادة 165 أن الاتفاق هو كل إلتئام بين مشيئة وأخرى لإنتاج مفاعيل قانونية، وإذا كان يرمي إلى إنشاء علاقات إلزامية سميّ عقداً.

كما تنص المادة 166 أن قانون العقود خاضع لمبدأ حرية التعاقد، فللأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب الحميدة.

وحيث إن عقد الزواج الذي جرى تنظيمه هو إلتئام مشيئتين بكامل إرادتهما الحرة والنزيهة الخالية من أي عيب، ولم يخالفا في العقد أحكام النظام العام والآداب العامة، وبالتالي هو عقد صحيح لا يمنعه القانون، منتج لمفاعيله وملزم لهما وللغير.

 – هل هو حصراً بموجب نص خاص من صلاحية موظف عام آخر:

لا يوجد ما يدّل على صلاحية حصرية لموظف عام آخر في هذا المجال مما يؤهّل الكاتب العدل بصفته ضابط عمومي لإبرام هذا العقد، لا سيما أن عقد الزواج هو من السندات الرسمية الذي يثبت فيه الكاتب العدل ضمن حدود سلطته واختصاصه ما تلقّاه من تصريحات ذوي العلاقة وفق القواعد المقررة، فالمادة 2 من قانون تنظيم الكتاب العدل تنصّ على أن "الكاتب العدل هو ضابط عمومي يناط به في حدود اختصاصه القيام بالأعمال المبينة في هذا القانون وفي غيره من القوانين والأعمال التي يطلب أصحاب العلاقة إثباتها".

كما أن المادة 143 من قانون أصول المحاكمات المدنية فقرة أولى تنصّ على أنّ "السند الرسمي هو الذي يثبت فيه موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة ضمن حدود سلطته واختصاصه، ما تمّ على يديه أو ما تلقاه من تصريحات ذوي العلاقة وفق القواعد المقررة".

كما أن العقد شرعة المتعاقدين ويتضمن النظام القانوني والمالي الذي يخضع له الزواج مما يؤهل الكاتب العدل بصفته الضابط العمومي لإبرام هذا العقد.

II – شروط إبرام عقد الزواج أمام الكاتب العدل في لبنان:

 – الشروط العامة للعقد

ينعقد الزواج كغيره من العقود بتوافر الأركان الثلاثة المتمثلة بالتراضي والموضوع والسبب وفقاً للنظرية العامة في الالتزامات، فيكون الركن الأساسي اللازم لقيام العقد هو الرضى أي اجتماع مشيئتين وتوافقهما على إنشاء علاقات إلزامية بين المتعاقدين، ويشترط لصحة التراضي تطبيقاً للقواعد العامة توافر الأهلية وسلامته من عيوب الرضى.

يقتصر دور الكاتب العدل في التحقق من توافر الشروط العامة الواجب توفّرها لعقد الزواج بالاستناد إلى ظاهر الحال، من توافر الأهلية وخلوّها من أي عارض ينقصها، ومن التأكد من إرادة كل من الفريقين واتجاهها بوعي إلى إبرام عقد الزواج، وقبولهما التعاقد بمحض إرادتهما وإنتاج الآثار القانونية المنبثقة عن ذلك.

 – الشروط الخاصة للعقد

لتأمين الشروط الخاصة والشكلية للزواج المدني، هناك دور لثلاث فئات: الكتاب العدل، مأموري الأحوال الشخصية، والمخاتير، بحيث تؤمّن المستندات التالية:

- المختار يفيد عن الوقائع التي يعرفها في إفادة لا مانع من الزواج بحسب معلوماته، إضافة الى إفادات سكن للتأكد من محلات الإقامة.

- مأمور النفوس يفيد عن المدوّن لديه في سجلات النفوس للتأكد من عدم وجود مانع، ويمكن استنتاج ذلك من بيانات القيد الإفرادية والعائلية التي تشير إلى الوضع العائلي، وتؤكد على الشطب وعدم الانتماء إلى طائفة، وهذه القيود الظاهرة هي التي يؤخذ بها للتثبت من الوقائع.

- الكاتب العدل يتحقق من إبراز الشهادة الطبية المطلوبة حيث جاء في المرسوم الإشتراعي رقم 78 الصادر في 09/09/1983 من المادة الأولى: على كل طالب أو طالبة زواج أن يستحصل قبل إجراء عقد الزواج لدى أي مرجع ديني أو مدني على شهادة طبية لا يعود تاريخها لأكثر من ثلاثة أشهر.

- كما يتحقق من العلنية بالإعلان الذي يذكر فيه ساعة وتاريخ ومكان انقضاء العقد والمستمد من قواعد الزواج العامة والأعراف المرتبطة بالزواج، والنصوص العامة التي ترعى الزواج المدني بشكل عام.


إن عقد الزواج المدني للأشخاص الذين لا ينتمون إلى طائفة، هو صحيح وقد نفذّ فعلاً وقانوناً وسجل لدى الدوائر المختصة، وقد صدرت بشأنه آراء استشارية عليا أكّدت على صحته وقانونية تنظيمه، والكاتب العدل مختص بمصادقته وفق التشريعات الحالية، مع العلم أن دولاً مجاورة قد بدأت بأخذ التجربة اللبنانية لإدخال الزواج المدني ضمن إطار نظامها القانوني.

وبما أن للموضوع بُعداً قانونياً وثقافياً، سأختم بالثقافي والقانوني لأقول:

نحن أولاً إنسان وهذا هو الجامع بين كافة البشر

نحن ثانياً مواطن وهذا الجامع بين كافة اللبنانيين

ومن ثم تأتي الانتماءات الأخرى التي نحترمها على تنوعها،

وإنّ أي مبادرة من المواطنين تستند إلى الدستور والمواثيق الدولية وتصبّ في هذا الإطار تشكّل خريطة طريق تمهّد لخروجنا من المأزق الحضاري الراهن.