بريطانيا... سيناريوهات الخروج من الاتحاد الأوروبي

خالد الربيع- أستاذ جامعي

بريطانيا التي كانت يوماً إمبراطورية عظمى وُصفت بأنّ الشمس لا تغيب عنها، والتي وَضعت أساس الملكية الدستورية والسلطة القائمة على تمثيل الشعب، تعيش الآن مأزقاً سياسياً. تعود جذور الأخير إلى الوقت الذي قرر فيه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون إجراء استفتاء يتيح للبريطانيّين الاختيار بين البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي. وكان للقوى الشعبوية مثل حزب "استقلال المملكة المتحدة" المعادي لكل ما يتجاوز الدولة القومية والسيادة الوطنية، تأثير كبير على البريطانيّين في التصويت لصالح قرار الخروج من الاتحاد أو "#البريكست". أتى ذلك بسبب ما يمثله هذا الاتحاد من دور طليعي في مستقبل ما بعد الحداثة والذي يهدد أهداف تلك الأحزاب.

سجالات وانقسامات

إنّ السجال الذي يحدث الآن في مجلس العموم البريطاني حول خطة "البريكست" المقترحة من رئيسة الوزراء، أكان بين الأحزاب أو داخل الحزب الواحد، ما هو إلّا تكريس للانقسام الحاصل على مستوى النخبة السياسية والاقتصادية. فقد بلغت نسبة مؤيّدي الخروج في الاستفتاء الذي تمّ تنظيمه في 23 حزيران 2016، 51.9% مقابل رفض 48.1% لهذا المصير. أظهر الاستفتاء انقساماً على مستويات شتّى: على سبيل المثال، أيّدت غالبية الإنكليز والويلزيين الخروج، أما الإسكتلنديون والإيرلنديون الشماليّون فأيّد معظمهم البقاء.

قد يكون لاختيار "البركسيت" أسباب عدّة من بينها المساهمات المالية التي تقدمها بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتزايد العمالة الوافدة إليها من مختلف أنحاء أوروبا، وما يراه بريطانيّون كتدخّل أوروبي في شؤونهم.

إذاً، هل تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتّفاق؟ وهل إعادة الاستفتاء مطروحة على طاولة البحث؟

أزمات متشابكة

على الصعيد السياسي، أعلنت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أنّها لن تترشح إلى الانتخابات التشريعيّة المقبلة سنة 2020. بالرغم من ذلك، وفي حين استطاعت أن تنجو من حجب الثقة بصعوبة، منيت خطتها المقدمة للبرلمان حول "البريكست" بهزيمة قاسية.

في هذا الوقت، يتسارع العد التنازلي نحو موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المحدد في 29 آذار 2019. إذا قررت بريطانيا الخروج من الاتّحاد من دون التوصّل معه إلى اتفاق، فقد تبرز مشاكل كثيرة من بينها ما هو مرتبط ب "اتفاق الجمعة العظيمة" ووضع إيرلندا الشماليّة واسكتلندا في المملكة تضاف إلى المشاكل الحاليّة المتعلقة ب "شبكة الأمان".

التأثير الاقتصادي

من المؤكد أن خروج دولة بحجم بريطانيا لن يخلو من التداعيات الاقتصادية. فقد بلغت نسبة صادرات لندن إلى دول الاتحاد الأوروبي 44% من إجمالي صادراتها أمّا نسبة الواردات من الاتّحاد فبلغت 53% من إجمالي وارداتها خلال الفترة نفسها أيضاً.

من ناحية أخرى، هنالك انتقال لأصول تقارب قيمتها تريليون دولار من بريطانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي قبل موعد "البريكست". وانخفض مؤشر النمو في البلاد إلى 1%، هو الذي بلغ أعلى المستويات في أوروبا خلال السنوات السابقة. ونتيجة لذلك، قد ينكمش الاقتصاد البريطاني إلى 8%، وقد تتقلص التجارة والاستثمارات مع الاتحاد الأوروبي إلى النصف، ويرتفع معدل البطالة. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تنخفض القوة الشرائية، وتزداد مديونية بريطانيا لدى الاتحاد الأوروبي لتصل إلى 45 مليار دولار.

أمل؟

بالرغم من تشعّبات هذه الأزمة، قد تتفق الحكومة البريطانية مع قادة الاتحاد الأوروبي على خروج سلس. يقطن حوالي 3 ملايين أوروبي في بريطانيا، بينما ينتشر أكثر من مليوني بريطاني في دول الاتحاد. إنّ الخروج من دون اتفاق قد يشرّع أبواب لندن أمام مصير مجهول بصرف النظر عن خطوات استباقية اتخذتها #فرنسا و #إيطاليا و #ألمانيا و #هولندا ومناقشتها خطة طوارئ في برلماناتها.

قد يكون موعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية في أيار المقبل، وعدم رغبة حزب المحافظين بإجراء انتخابات مبكرة يمكن أن يستغرق تنظيمها فترة طويلة، والتخوف من أن يصبح ملف البريكست بيد البرلمان بدلاً من الحكومة البريطانية، وصعوبة إجراء استفتاء آخر لأنه يثير الجدل حول بعض المبادئ الديموقراطية، من بين الأسباب التي تدفع لندن وبروكسيل لتقديم بعض التنازلات.

تنازلات متبادلة

أحد السيناريوهات المحتملة هو الذهاب إلى تمديد تقني حتى الصيف المقبل، كي تعود تيريزا ماي إلى بروكسل وتتفاوض على اتفاق أفضل بالنسبة إلى البريطانيين مع بقاء بريطانيا في الاتحاد الجمركي بصورة دائمة. بالمقابل، تتنازل تيريزا ماي عن بعض الخطوط الحمر التي وضعتها في بداية التفاوض مع الاتحاد، مثل عدم رغبتها بوحدة جمركية أو سوق أوروبية مشتركة لكي تكون قادرة على إبرام اتفاقات جمركية مع دول من خارج الاتحاد الأوروبي، لأن القوانين الجمركية الأوروبية الحالية لا تسمح القيام بذلك.

ومن أجل جذب رؤوس الأموال في ظل نقل المصارف والشركات مقراتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، قد تسعى بريطانيا إلى أن تكون ملاذاً ضريبياً وتخفض الضرائب على بعض الشركات. وانخفاض قيمة الجنية الإسترليني سيساعد لندن على زيادة التصدير.

درس

قد يعود جزء من الضبابية في المشهدين الأوروبي والبريطاني إلى رغبة دول الاتحاد الأوروبي بتلقين الدول التي تفكر في مغادرته درساً قاسياً خصوصاً مع صعود الأحزاب الشعوبية التي تناهض المؤسسات الأوروبية في بروكسل وستراسبورغ.