انسانية يسوع

غسان صليبي

أصبحتُ مسيحيًّا بالمعموديّة، مثلي مثل الأطفال الذين ينتمون الى ديانتي.

لم يُؤخذ برأيي، كما كان يحصل في المراحل الأولى من المسيحيّة، عندما كان "يُعمَّد" الإنسان برضاه وبعد ان يكون قد أصبح راشدًا.

توقفتُ عن ممارسة الطقوس المسيحيّة وعن حضور القداديس، ولم أكن بعد قد بلغت الثامنة عشرة من عمري.

كنت متأثّرًا ببعض تعاليم يسوع لكنّي عندما كنت أشارك في المناسبات المسيحيّة، لم أكن أجده هناك. في البداية كنت اعود ادراجي خائبًا، حتى قرّرتُ في النهاية ألاّ أشارك إطلاقًا.

لم أتوقّف عن قراءة مقاطع من الأناجيل وخاصة في مناسبات عيدَي الميلاد والفصح. ولطالما كنت متأثّرًا بإنسانية يسوع وبكون المحبة هي في جوهر تعاليمه. كتبتُ مقالات عدّة عن يسوع عكستْ محبتي له وإعجابي بشخصه.

هذه السنة وللمرّة الأولى في حياتي قرّرتُ قراءة أحد الأناجيل الأربعة بكامله واخترتُ إنجيل متى ربما لتأثري بفيلم المخرج الشيوعي بازوليني، "المسيح بحسب إنجيل متى".

على رغم صغر حجم الأناجيل الأربعة، لا أعرف لماذا تقاعستُ حتى الآن عن قراءة الرواية الكاملة لحياة الشخص الذي غيّر تاريخ البشريّة. مع العلم انني قرأتُ "حياة يسوع" لرينان، و"اغتيال المسيح" لرايش و"البحث عن يسوع" للصليبي.

يبدو انني كنت أتفادى الاتصال المباشر بالمصادر الأساسيّة، وعلى غير عادتي كباحث. ربما لأنني هنا لست مجرّد باحث، بل "مسيحيّ" بالمعمودية وليس بالإختيار الحر.

ربما لأنني علماني في بلد الحروب المذهبيّة والطائفيّة، وأحببتُ ان أبتعد قدر الإمكان عن كل ما له صلة بالمذاهب والطوائف.

مهما كان السبب، اعتقد اليوم ان إحجام العلماني أو الملحد عن قراءة النصوص الدينيّة، هو موقف "ديني" من الدين الذي يجب التعامل معه كأي نتاج بشري، فكيف الحال إذا كان هذا النتاج البشري ذا تأثير كبير في المشاعر والعقول.

قررتُ في الواقع قراءة إنجيل متى بحثًا عن جواب عن الأسئلة الآتية:

هل كان يسوع "مثاليًّا" أو "إنسانيًّا"؟

أتناول الموضوع من منظار محدّد: الى أي مدى ينطلق يسوع في مواقفه وسلوكه من قيم مثالية ثابتة، مستوحاة من الشريعة أو من الدين، ويتعامل من خلالها مع التجربة الإنسانية؟ أو الى أي مدى يستقي مواقفه وسلوكه من معاينة شخصية للتجربة الإنسانية ويستنبط منها قيمًا هي أقرب الى "الإنسانوية" التي تضع الإنسان والقيم الإنسانيّة فوق جميع القيم الأخرى؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب بحثًا وكتابًا خاصًا. ما أورده في هذا النص القصير هو مجرّد انطباعات أوليّة كوّنتُها بعد قراءة أولى لإنجيل متى ومقاطع من اناجيل اخرى.

في مستهل الإنجيل، وفي بداية رسالته، يطل علينا يسوع بشخصية الواعظ "المثالي". "من خالف وصية من أصغر هذه الوصايا (وصايا الشريعة) وعلّم الناس ان يعملوا مثله، عُدّ صغيرًا في ملكوت السماوات وأما من عمل بها وعلّمها، فهو يُعدّ عظيمًا في ملكوت السماوات". ويضيف في مكان آخر: "كونوا انتم كاملين، كما ان أباكم السماوي كامل".

يذهب يسوع ابعد من ذلك في تعاليمه الأولى فيرفع من "سقف المثاليّة" التي تنص عليها الشريعة، في كلام يحتوي على شيء من القسوة في حق بني البشر:

- "سمعتم انه قيل لآبائكم: لا تقتل، فمن يقتل يستوجب حكم القاضي، اما انا فسأقول لكم: من غضب على اخيه استوجب حكم القاضي".

- "وسمعتم انه قيل: لا تزن، اما انا فأقول لكم: من نظر الى امراة ليشتهيها، زنى بها في قلبه".

- "وقيل ايضًا: من طلّق امرأته فيعطها كتاب طلاق، أما انا فأقول لكم: من طلّق إمرأته الا في حالة الزنى يجعلها تزني، ومن تزوّج مطلّقة زنى".

هذه "المثاليّة" المصاحبة لهذه "القسوة" تبدأ بالتلاشي وانت تتقدّم في قراءة الإنجيل. وكأن يسوع راح رويدًا رويدًا يتخلّى عن التعاليم اليهودية ليؤسس لدين جديد هو المسيحيّة، على رغم انه قد قال انه لم يأت لينقض الشريعة (اليهودية) بل ليكمّلها.

يسوع يعلن "انسانيته" مباشرة، وبدون مواربة: "ابن الإنسان هو ربّ السبت"، والسبت يرمز الى الشريعة.

وفي تراجع عن "القسوة" تجاه الإنسان التي ظهرت في بداية تعاليمه، قال لمن حوله: "لا تَدينوا لئلا تُدانوا"، مذكّرًا في مكان آخر بالآية التي تقول: "اريد رحمة لا ذبيحة".

لم يعد العمل بالوصايا هو الشرط لدخول ملكوت السماوات: "إن كنتم لا تتغيرون وتصيرون مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات". العودة الى الطفولة هو ليس فقط عودة الى البراءة، بل هو عودة الى ما قبل مرحلة لعب الأدوار الإجتماعيّة التي يتولاها الكبار والمتصلة مباشرة بالوصايا. وكأن ما يهمّ يسوع أصبح في مكان آخر تمامًا. انه الإنسان بالمطلق والمجرّد مثل الأطفال من المواصفات الإجتماعيّة التي تميّز بين البشر.

حتى انني ارى في نظرة يسوع الى الزمن، تركيزًا أكبر على الحياة اليوميّة وأهمّيتها بدل جعلها مجرّد اختبار لدخول ملكوت السماوات: "لا يهمّكم أمر الغد، فالغد يهتمّ بنفسه. ولكل يوم من المتاعب ما يكفيه".

يبدو ان الإنسان، في حياته اليوميّة على هذه الأرض، بدأ يأخذ حيّزًا أكبر من اهتمامات يسوع، على حساب همّ ملكوت السماوات الذي ينتمي الى الغد.

هذا التوفيق أو هذه المساواة بين الحياة الأرضيّة والحياة الأبديّة يظهر جليًّا في تصنيف يسوع للوصايا وترتيبها بحسب الأولوية. "الوصية الأولى: أحب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل فكرك وكل قدرتك. الوصية الثانية مثلها: أحب قريبك مثلما تحب نفسك".

يدمج يسوع في تعاليمه دائمًا بين الوصيتين ويعتبرهما غير منفصلتين. "القريب" في مفهوم يسوع هو الإنسان بالمطلق، ولا يميّز بين الصديق والعدو: "سمعتم انه قيل أحب قريبك وأبغض عدوك. أما انا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم". انه حب للإنسانية جمعاء، بغض النظر عن طبيعة العلاقات بين البشر.

هذا "القريب" يتجاوز المفهوم "العائلي" و"المكاني". فعندما جاء أحدهم الى يسوع ليقول لهه "أمك وأخوتك واقفون في خارج الدار يريدون ان يكلّموك" أجابه يسوع: "من هي أمي ومن هم أخوتي؟ هؤلاء هم أمي وأخوتي"، مشيرًا الى تلاميذه. كأن "إنسانيّة" يسوع تفترض حكمًا تجاوز العائليّة.

لكن تجاوز "العائليّة" لا يعني عند يسوع تجاوز "حب النفس" أو نكران الذات: "أحب قريبك كما تحب نفسك".

فيسوع أيضًا كان يحب نفسه. واذا كانت الأمثلة حول هذا الموضوع قليلة في الأناجيل، إلاّ انني أتوقف هنا عند حادثتين.

الأولى عندما جاع "وجاء الى شجرة تين رآها على جانب الطريق، فما وجد غير الورق، فقال لها: لن تثمري الى الأبد... فيبست التينة في الحال". اللافت هنا هو غضب يسوع عندما لم يتمكّن من تحقيق حاجته وترجمة غضبه بلعن شجرة التين على رغم علمه انه لم يكن للتينة ان تثمر فلم يكن "موسم" التين قد أتى بعد.

الحادثة الثانية عندما دنت منه امرأة تحمل قارورة طيب غالي الثمن، وسكبته على رأسه، مما جعل تلاميذه يستاؤون ويقولون انه كان في إمكان الطيب ان "يباع غاليًا ويوزّع ثمنه على الفقراء". وقد أجابهم يسوع: "لماذا تزعجون هذه المرأة؟ فهي عملت لي عملاً صالحًا. فالفقراء عندكم في كل حين، وأما انا فلا أكون في كل حين عندكم".

حب يسوع للإنسانيّة جمعاء لا يخلو من "تمييز" لصالح الفقراء والمنبوذين. فهو قال:" مرور الجمل في ثقب الإبرة اسهل من دخول الغني ملكوت الله". وفي مكان آخر وللدلالة أيضًا على من يدخل ملكوت السماوات، أعطى الأهميّة الأولى لمن يهتم بالفقراء والمعوزين، لمن يطعم الجوعان ويسقي العطشان ويؤوي الغريب ويكسو العريان ويزور المريض أو السجين.

كذلك إن "إنسانيّة" يسوع لا تخلو من تبنٍّ لنوع من العدالة الإجتماعيّة. ففي مثل يعطيه عن عمّال في حقل، يدافع عن فكرة إعطاء الحد الأقصى للأجر اليومي لجميع العاملين بغض النظر عن ساعات العمل. ويسوع هنا يقترب من المقولة الاشتراكية: "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته".

لكن انسانية يسوع لا تضحّي بالفرد من اجل المجموعة. ففي مثل يعطيه، يذهب الراعي للتفتيش عن نعجة ضاعت، تاركا الخراف الاخرين.

لا تكتمل "إنسانيّة" يسوع بدون الغفران. فعندما سأله بطرس "كم مرّة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟"، أجابه يسوع: "لا سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات".

هذا التسامح المطلق مع الخطأ البشري يمكن تلمّسه في حادثة المرأة الزانية. فعندما جاءه معلّمو الشريعة بامرأة زانية وطالبوه بموقف منها مذكِّرين بأن موسى أوصى برجمها، قال لهم "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بأول حجر".

موقف يسوع هذا لا يشير فقط الى عدم تمييزه سلبًا بين خطيئة الزنى والخطايا الأخرى. بل يستدل منه ان يسوع يفترض انه لا يوجد بين البشر من هو بلا "خطيئة". واني اعتقد ان التسامح المطلق عند يسوع ينبع من هذا الاقتناع. انها "إنسانيّة" لا تتنكّر لضعفها بل تواجهه بالمحبة.

***

عن ميلاد يسوع يذكر إنجيل متى ان "امه مريم كانت مخطوبة ليوسف، فتبيّن قبل ان تسكن معه انها حبلى من الروح القدس. وكان يوسف بارًّا فما أراد ان يكشف امرها، فعزم على ان يتركها سرا." وكانت الشريعة في حينه تطالبه بأن يرجمها.

لكن يوسف عاد وجاء بامرأته الى بيته بعد ان ظهر له ملاك الرب في الحلم وقال له انها حبلى من الروح القدس.

لا يذكر إنجيل متى ولا الأناجيل الأخرى ما كان رد فعل البيئة اليهودية المحافظة على هذا الحدث. وليس هناك اي معلومة حول ما اذا كان لخصوصيّة ولادة يسوع اي انعكاس على علاقته هو ببيئته، عندما كان طفلا او عندما أصبح يافعا.

اذا صح ما تقوله الأناجيل عن ولادة يسوع، فلا شكّ انه كان لظروف ولادة يسوع تأثير كبير في تبلور "إنسانيته" وحساسيته المفرطة تجاه العادات والتقاليد.