الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

وليد جنبلاط بين المواسم والحقائق

المصدر: "اللنهار"
وائل ضو
وليد جنبلاط بين المواسم والحقائق
وليد جنبلاط بين المواسم والحقائق
A+ A-

لطالما تغنّى بلد الأرز لبنان، بعمقِ وعبقِ حضارته المتراكمة عبر حركة التاريخ لآلاف السنين. فها أرزةٌ تتربع على قمة جبل الباروك، وقد ناهزت سنيّها الثلاثة آلاف، تُحفّز ذاكرتنا على توأمة الحاضر بالماضي البعيد. وها في بعلبك أعمدةٌ شامخة شيّدها الرومان معابد لا تزال تحفظ إرثها العميق بحضورٍ وتألقٍ لافتين. وها قلاعٌ صامدة بكل جرأة ووفاء وامتنان لمن شيّدها، تمتدُ عبر الساحل اللبناني من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، تحاذي البحر وتحاكي حركة أمواجه التي لا تكل ولا تتعب أو تيأس. هذا غيضٌ من فيض لبنان الثابت الذي عايشناه ونعايشه متمسكاً بأمجاد ماضيه، حاملاً إرثه جيلاً بعد جيل، وفياً مخلصاً لمن كان سبب وعلّة وجوده...

لم يمتثل اللبناني يوماً إلى هذه "الجوامد"، ولم تكن له مثالاً يحتذى، ولم يقتبس منها فعلاً، ولم يأخذ عبرة من وفائها والتزامها وإصرارها عبر السنين على استحضار من تكبّد عناء وجودها. اللبناني ابن الفصول، متقلّبٌ مثلها، فلا تعنيه الأرزة العتيقة الشامخة والوفية برسالتها، بل تجذبه نباتات موسمية مارقة وطيور مهاجرة، فلا ذكرى راسخة يحملها معه من موسمٍ إلى آخر.

لن أرهِقَ ذاكرةً بإيقاظها على فعلٍ مضت عليه عقودٌ من الزمنِ، ولن أُحركَ مياهاً آسنة بفعل قلةِ حركتها، ولن أتوسع بذكرِ الأحداث حتى لا نصطدم بزحمتها. كل ما أسعى إليه هو إحياء الذاكرة، القريبة لا البعيدة، الحية فينا كما ينبغي أن تكون. الأحداث تتراكم سريعاً، فلا قدرة على مواكبتها لغير المتابع والملمّ بما يحدث. لكن الأعمال الكبيرة لا يجوز أن تغيّبها الذاكرة أو تمحوها لمصلحة حركةٍ أقل منها أهميةً وتأثيراً وفعلاً ونتيجةً.

14 آذار، أيها السادة، لحظةٌ تاريخية في حياتنا، لها أسبابها ودوافعها المؤلمة، ولها قاطرتها المؤثرة، ولها اندفاعة شعبها، ولها صدق غايتها وهدفها، ولها شهداؤها، ولها نتائجها القيّمة التي ارتبطت في كلِ ما سبق أن ذكرت. فكان استشهاد الرئيس رفيق الحريري السبب الأول والرئيسي لهذه اللحظة الناريخية، وكان لوليد جنبلاط الاستقلالي الصادق، الدور المؤثر والفاعل في القيادة، بالرغم من الضغوط الهائلة لمنعه من لعب هذا الدور، إلى جانب نخبة من القيادات اللبنانية، وكانت للشعبِ قوة الاستجابة والاندفاع والوحدة والانسجام، فلعب "شعب 14 آذار" دوره الأبرز في مواكبة القيادات لتحقيق أهداف هذه الحركة الاستقلالية الشعبية الفريدة. تلازمت عناصر "الثورة البيضاء" وتشابكت وتفاعلت في ما بينها، لتنتج استقلالاً حقيقياً، وتسطّر تاريخاً مشرفاً سنذكره لأبنائنا وأحفادنا، ما دمنا نحتضن هذه الأرض بوعينا.

كانت مرحلةً عصيبة في تاريخ لبنان الحديث. كان الموت والقتل أبسط الرسائل لدى "فاعلٍ" يعشقُ الدماء، وينمو على رائحتها، ويتلذذُ بمشاهدتها. وكانت مواجهة آلة القتل ضرباً من الجنون، والصمود في وجهها يحتاجُ إلى السير على ضفاف الموت بكل قوةٍ وشجاعةٍ وعزمٍ وصلابةٍ وإرادةٍ وإيمان. إيمان بأهمية الحرية، وإيمان بحاجةِ الوطن والشعب إلى حركةٍ اعتراضية ترفعُ عنه الغبن الذي يرزحُ تحته. فكان وليد جنبلاط حاجة الناس لهذه اللحظة المفصلية المؤلمة، وكان الشعبُ في قمة اندفاعه لتحقيق غاياته الوطنية في تلك اللحظة المهمة والمفصلية في تاريخه الحديث.

ذات يوم، وقبل الانتخابات النيابية الأخيرة، سألت أحد القادة المقربين من وليد جنبلاط، لماذا لا تُذكِّرون الناس بخدماتكم؟ ما دام ثمة من يسرق إنجازاتكم تجاه مجتمعكم أو يعمل على حرمانكم منها. أجابني: "ممنوعٌ علينا من وليد جنبلاط فعل هذا الامر! آل جنبلاط لا يُمنِّنون الناس بما يُقدمون ويفعلون، فهذه مسؤولية وواجب وطنيٌ وإنساني تَكرّس عبر قرون من الزمن، ومستمر طالما دعت حاجة الناس إليه".

هذه الكلمات تختصرُ مسؤولية هذه العائلة وأهميتها ودورها في الحياة السياسية اللبنانية. لقد قام وليد جنبلاط بأهم وأخطر الأدوار في تاريخ لبنان الحديث لنيل استقلاله ورفع الغبن عن قادته ومعتقليه ومنفييه، ولم يخرج يوماً على الإعلام ليُذكّر الناس بما فعل، وبالصعوبات والمخاطر التي واجهها في تلك الحقبة السوداء المؤلمة بخسائرها، والبيضاء المُشرّفةِ بنتائجها.

في زمن التزاحم على الأدوار، وافتعال البطولات الواهية، وإحياء الأمجاد الوهمية، أقول للإستقلاليين: وليد جنبلاط خارج هذه المنظومة الفكرية السائدة، فهو ينبذُ الاستعراضات، ويرفضُ إيقاظ الآلام، فلم يُحي يوماً ذكرى انتصارٍ، أياً تكن أهميته. فالانتصار لا يكتمل ما لم ينله الوطن بكامله. لكل هذا، لا تنتظروا أيها السادة أن يُذكرنا وليد جنبلاط بمحورية دوره في استقلال لبنان وتحرّره من الوصاية، إنما - للأمانة والوفاء والضمير والأخلاق والواجب والضرورات الإنسانية - كلُ هذا يفرضُ علينا الامتثال بالأرزة وما تحمله من ذاكرةٍ خصبةٍ وفيّة لزارعها، والقلعة وما فيها من عنفوانٍ يعكسُ إرادة بانيها وصلابته، لعلنا نحمي الحقائق التاريخية في وطننا، من مواسم مارقة.

رجل أعمال مُغترب


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم