جبران وتطبيع الموت

علي حماده

كان جبران يعرف انه لن يعيش طويلا. فقد اختار الطريق الاصعب والاشقى والاكثر خطورة للنضال من اجل لبنانه. وكان يعرف انه ان افلت مرة او اكثر من براثن القتلة، فإنه لن يسلم في كل مرة. ومع ذلك اختار الطريق التي يصعب ان يفلت صاحبها من القتل على يد قتلة الداخل والخارج على حد سواء. ادرك جبران الذي كان قد اصبح أباً مجدداً انه ليس ملك عائلته، ولن يكون. لقد آمن بأنه ملك وطنه، وملك القضية، وانه شأن ابيه غسان من قبله، وجدّه جبران من قبلهما سيكون جزءا من تراجيديا يختلط فيها ما هو عائلي بما هو وطني، ليمتزجا في اطار واحد لا انفصام بينهما.
لقد رافقت جبران طوال عمرينا المتقاربين، ولم يغب عن ذهني يوما ان عائلتنا لا يمكنها إلا ان تختار دروبا صعبة، وخطرة، لأن معارضة الطغيان ومقاومته في مشرقنا العربي تكادان تكونان بمثابة الانتحار مع وقف التنفيذ، في انتظار ان ينفذ حكم الاعدام بصاحبها. وفي المسار النضالي إياه، كم من الاشخاص مضوا في طريق صاعدة مؤثرين الانحناء، والإذعان، والاستسلام للقوة ومنطقها بصرف النظر عن المشروعية الاخلاقية او الوطنية.
لقد قيل الكثير في جبران وقَسَمه التاريخي. بعضهم رأى فيه لحظة ارتقى فيها جبران تويني الى مصاف الصدّيقين ببضع كلمات ردّدها امام مليون لبناني نزلوا الى ساحة الحرية ردا على اغتيال رفيق الحريري. انا من ناحيتي، رأيت في القَسَم الذي كتبه جبران بما يشبه الوحي الذي اتاه قبل دقائق من نزوله الى الساحة لينضم الى الناس، نتيجة لتراكم طويل الامد في حياة هذا الرجل الذي شب على حب الثورة الفلسطينية في اوائل السبعينات، ثم أحب بشير الجميل، ليقف في نهاية الثمانينات بجانب ميشال عون، وفي كل مرة كان يختار الاصعب والاكثر قربا الى منطق الثورة التي كانت تعتمل في نفسه.
في التسعينات، كان يمكن جبران ان ينضم الى الفريق "المنتصر" ويقتطع لنفسه موقعا، لا بل مواقع رسمية. لكنه بعد فشل التجربة العونية في طبعتها الاولى، عاد الى المربع الاول ليبني من القاعدة تجربته الخاصة التي زاوجت بين الصحافة في ارقى مظاهرها المهنية، والمعارضة السياسية في ارقى مظاهرها السلمية والفكرية. ومعروف كم واجه من معوقات وعراقيل على كل المستويات. لكنه مضى في طريقه غير آبه، متحملا الكثير الكثير من الاقربين والأبعدين مما لم يحن وقت البوح به حتى الآن.
في اعتقادي ان أحد العناصر الاكثر اشراقا في مسيرة جبران تويني كانت قدرته على ابتكار تلك "الخلطة التوينية" التي لا يمكن غير ابن غسان وناديا تويني ان يبتكرها: المزاوجة بين التناقضات والمتناقضين في لحظة واحدة ومكان واحد. وليس أدلّ على ذلك من كون مَن بكوا جبران تويني باعتبارهم تلامذته، أتوا من خلفيات وبيئات مختلفة ومتحاربة. وقد كان هذا الامر ثورة حقيقية في مرحلة ما بعد الحرب.
سيأتي يوم أكتب فيه بإسهاب عن حياة جبران، لكني أكتفي اليوم بالعودة الى موضوع الموت واقول: ان جبران كان ابن عائلة عرفت كيف يُطبّع الموت حتى يصير خليلاً ورفيقاً وحتى انيساً...


ali.hamade@annahar.com.lb