على هامش معرض الكتاب الـ57 - كتابة المدينة تُخرجني منّي

روجيه عوطة

بعد أيام، يكون قد مرّ عامٌ على انتقالي إلى بيروت. هذه المدينة، التي أتيتُ إليها، ومعي سؤال أكرره: كيف أكتب فيها؟ في الأصل، جئت إلى هذا المكان بوصفي شغّيل كتابة، وقد كنت قلقاً في بداية وصولي على قدرتي الكتابية، يعني أن أفقدها نتيجة تغيّر الظروف المحيطة بها، أو بي. فيوم أدخلتُ أغراضي القليلة، التي جلبتُها معي، إلى مسكني الجديد، رتّبتُها بسرعة، وبما يناسب مساحة الغرفة، ومن ثمّ جلستُ وراء شاشة اللابتوب على الشرفة، ورحت أكتب. حينذاك، كان أخي جالساً بقربي، منزعجاً من محادثتي، وأنا غافل عنه في النص، ولا أردّ عليه.


غادرني أخي، ولم أتوقف عن الكتابة. قلت إنه لن يتضايق، هو يدرك حالي، هكذا ظننت، وسأظل مستمراً على هذا الظن، نحوه ونحو الكثير من الأصدقاء، حتى اكتشفت بعد أشهر، أن ما اعتقدته كان تأثيراً بيروتياً خالصاً. لقد كتبت في بيروت لغايات مختلفة، غير قلقي منها، فمرةً كي أكون وحيداً، ومرات، كي أفرّ من أجل التآلف، وأحياناً، على عادة روتينية، لا أكثر ولا أقلّ. لكني، على رغم هذه الأسباب، أدرك أن لا علم لي بدوافع كتابتي، ولا أرغب في اكتشافها، ذاك، أني لن أسأل نفسي: "لماذا أكتب؟". لا تهمّني الإجابة. بيروت، لأنها أصبحت مكاني، تساعدني على نسيان هذا الإستفهام، الذي لا جدوى منه. الآن، عندما أرتكز على تجربتي القصيرة، والمتواصلة، للبوح بعلاقة كتابتي ببيروت، أسعى إلى الإقتراب أكثر من المدينة، علّني أبارحها إليها، لأنها تسهو، دائماً تسهو، إلى درجة أن في مقدوري أن أقول بقساوتها، وبليونتها في الوقت نفسه. أما هي فلا تخرج عن سهوها البتة.


حقيبة التصدع
لم أُفرغ الحقائب. وضعتُها في زاوية الغرفة، وقد جانبتها الطاولة، وعليها بعض الكتب، التي ركّزتُ لابتوبي بينها. قلت إنني سأحتمل ضوضاء الشارع، وسأغضّ عن ضجيجه. هذا ما سيتيح لي الإستمرار في العمل. لكني، بعد فترة، اخترتُ الصباح المبكر كوقت ملائم للكتابة. خلاله تكون المدينة نائمة، ولا جلبة في أرجائها. تالياً، يصبح في مقدور المرء أن يكتب بدون أن يشعر بالإنزعاج، أو الإضطراب من جرّاء الأصوات، أو الصور في ما بعد. قبل هذا الخيار، كنت أمضي ساعات كتابتي وقراءتي متوتراً، غير متمكن من سرعة الوقت، الذي غالباً ما يدهمني، بسبب بطئي، ووزن جسدي أيضاً. إذ إن وتيرتي اليومية بدأت تتصدع، وتنهار، وثمة طريق آخر، من الضروري أسير فيه كي أصير بيروتياً بزمنَيَّ الخاص والعام.
ترافق التصدع مع شكل من التشنج، كان يصيبني لحظة الكتابة، بحيث أني كنت أحاول الفرار من الوقت الجديد عبرها. لذا، كان التوتر يشتد كلما بدأتُ بالكتابة. حتى أني، في بعض الأحيان، كنت أشرع في حكّ جلدي، كأني أقشره، كي يخرج كائناً غيري من تحته، أو كي أخرج أنا منّي. فبالتوازي مع فراري بالكتابة، كانت الوقت يقشط ذاتي، وهذا ما يؤدي إلى شعور بالإرهاق، أو الدوار تحديداً. كنت كلما وصلتُ إلى المنزل بعد العمل، أشعر أني دائخ للغاية، وأن الأشياء تتحرك بسرعة من حولي، ما دفعني، في أوقات كثيرة، إلى اعتماد الكحول كوسيلة كي "أنطفئ"، وكي يتوقف دواري، أو أبلغ سحقاً ما، يجعلني أنام، لأستيقظ في اليوم الثاني، منصرفاً إلى كتابةٍ منقبضة، لا ترغب في الإنضمام إلى المدينة.
تواصلت حالي هذه، وتضاعفت، حتى بدأت تزول تدريجاً. ففي أحد الأيام، ذهبنا، صديقي وأنا، إلى السوق، حيث ابتعت القليل من الأثاث، من ضمنه خزانة خشبية، أفرغتُ حقائبي داخلها، خاتماً مرحلة من العيش على وشك الرحيل، أو بالأحرى العودة إلى بيتي الأول. انتهت الصلة بين الرحيل والكتابة. معها، انطوت فترة من الإضطراب، الذي كان يغيِّرني إلى كائن يحيا على أهبة الرجوع. لكني، على رغم ذلك، لم أستقر. فبيروت لا تتيح ذلك. وإذا فعلت، فعلى شكل من أشكال الثبات.
هكذا، ثبتت أغراضي في الغرفة، وثبتت كتابتي على فعلٍ، لا علاقة له بالفرار أو المكوث، بل بالتحيّن. أما ذاتي، فبدأت تترقب فرصتها لتلملم ما انهزّ فيها، وذلك على تخوم المدينة، التي لم أتخط عتبتها، ولم أتراجع في الوقوف عندها، بل رحت أنتظر. خلال هذا الإنتظار، كانت العزلة تتفسخ، وكانت دعوة الأصدقاء إليها، تكشف عن خوفٍ جوّاني، لا مناص من تبديده تدريجاً: من النص، إلى الغرفة، فالشرفة، وبعدها الشارع. بمعنى آخر، كانت المعركة بين الكتابة وبيروت، قد دخلت في هدنةٍ، رغبتُ خلالها أن أخفف من القلق المتحكم بالعلاقة بين الإثنين، وذلك بانفتاح المكتوب على المعيش، والإنتهاء من الهجس في الخرافة، التي تربط بين الكتابة والعزلة، كأنها تحوّل الكتّاب إلى معزولين، وهم سرعان ما يتحولون، بدورهم، إلى رجال دين، أو إلى خدع السلطة. وهذا حديث آخر.
غير أن الكتابة لا تتغيّر من فعل فرار إلى فعل إندماج، بل تغيّر موضوع فرارها فحسب. بدل أن يكون خلفياً، يكون أمامياً. فبعدما كانت الكتابة بمثابة فرار من المدينة، بدأت تتحوّل فراراً إليها. بفعلها هذا، كانت العزلة تصير وحدةً، لا علاقة لها بالنص، على رغم أنها في بعض الأحيان تختبئ وراءه، تماماً، مثلما كان الخوف يتوارى وراء الحقيبة في زاوية الغرفة، أو خلف نسيان الحصول على مفتاح بوابة المبنى، حيث أسكن. فأنام في الخارج، عند هذه الصديقة أو هذا الصديق، كي أبقى خارج بيروت، وكي لا يصيب الأرق كتابتي.


تكتب ما ترغب؟
بعد ذلك، بدا كأن بيروت والكتابة قد اتفقتا على إنهاء التوتر بينهما من جهة، وعلى دفعي نحو النظر في ذاتي، من جهة أخرى. تالياً، وقعتُ على وحدتي، التي سعيتُ إلى التخفيف منها، أو معالجة حماها، وتصييرها وحدةً مفتوحةً أمام الآخرين. صحيح، أني أخطئ في أغلب محاولاتي، لكني، أدرك أن الخطأ ضروري، لا من أجل بلورة الذات فحسب، بل للخروج من النص المقفل، والإبتعاد عن الإعتقاد بأن الكتابة ترادف الطهارة، وأن على فضائها أن يبقى نظيفاً، غير ملوّث بالسقطات. من الممكن، في هذا السياق، الإشارة إلى قيمة بيروت الكتابية، بحيث أنها تلوّث الكتابة، وتزعجها، دافعةً إياها للبحث عن طرق جديدة للأسلبة.
طبعاً، المدينة لا تتقصد هذين الفعلين، التلويث والإزعاج، من أجل بلورة الكتابة، بل للحؤول دونها ربما. لكن، مَن يصمد فيها، يستطيع استخدام أفعالها للذهاب بنصّه نحو أسلوبٍ جديد، يعبّر عن خصوصيته، وعن رغبته في أن يكون مستقلاً في مكانه الجديد. الأسلوب في النص هو بمثابة البحث عن الأوتونوميا في المدينة. هنا، يصبح استفهام الحرية الشخصية في بيروت ضرورياً: هل فعلاً أنا حرٌّ فيها، إلى درجة أن أكتب ما أرغب فيه؟ السؤال هذا، سرعان ما يُفتَح على الجميع: هل نكتب ما نرغب فيه أم لا؟ بالطبع، الإجابات حاضرة خارج الكتابة، بقدر ما تحضر داخلها، أي في البنية البيروتية، التي لا يمكن الإعتماد عليها لبلوغ غاياتنا الأوتونومية. أصلاً، من المستحيل الإعتماد على المدينة في أيّ مهمة، بسبب استقرارها الغائب، وسلطاتها القامعة بلامرئيتها وانشطارها، بالإضافة إلى ثقل الحروب في ذاكرتها المفقودة. كما لو أننا، نحن الذين نكتب في بيروت، نفعل ذلك بين ثلاث حروب: الأولى وقعت. الثانية تهدد بالوقوع. والثالثة ستقع. فكيف، والحال هذه، لا نكتب سوى الحروب، أو ما يشبهها؟
في الأحوال كلّها، الوحدة ليست شأناً كتابياً، بل إن الكتابة تطرحها كسؤال من أسئلتها، وتدفع شغّيلها إلى الإلتفات نحو ذاته، والإبتعاد عن الإكتفاء بها. على هذا الأساس، تكون الكتابة قد بدأت تتفق مع مدينتها، وتصبح سبيلاً إليها. فعندما يطل الكاتب على المكان من نصّه، يحاول إدخال الغير إليه، وتوريطه به، كما لو أن النص فضاء اجتماع، قائم على الوحدة، لكنه لا يتأثر بحماها. ذاك، قبل أن ينفصل النص عن المكان، ولا تعود العلاقة بينهما مباشرة، أو لنقل مرضية، مثلما هو شائع في خرافة أخرى، غير "العزلة طريق الكتابة". حينذاك، يتوجه الكاتب إلى مدينته بوصفه كائناً غير نصّي، أي أنه يغادر النص إلى رحابها. الخروج هذا هو بمثابة تجربة قاسية، من الممكن ردّها إلى سؤال دائم عن العلاقة بين الكتابة والإجتماع، بالإضافة إلى أنها تتيح لخائضها أن يمارس حريته لا في نصه، من خلال الأسلوب، فحسب، بل في الواقع، عبر وحدته المفتوحة، أيضاً.


تسييق الإجتماع
أسلوب الوحدة هذه، لا يسمح للنص بأن يُغلق على الكاتب، ولا للإجتماع بأن يبتلعه، خصوصاً حين لا يكون الكاتب على تنغّص دائم، فيتعصب للقراءة والكتابة كأنه يقدسهما، ويحملهما على محامل الوسواس. فعلى الكتابة أن تتفلت من الكتابة، وأن لا تكون غاية بذاتها. على هذا المنوال، من الممكن أن يكون هدفها الوصول إلى مدينة مثل بيروت، لا تستقر، ولا تهدأ. هذه الحركة تؤلف وجهها الإيجابي، على رغم أنها لا تندفع سوى إلى الإقتتال والتذابح. وفي ذلك، تكمن سلبيتها. إذاً، قد تساعد بيروت الكتابة في التخلص من وضعيتها، أي من أرثوذكسيتها، فلا تعتقد أنها طاهرة، وصحيحة، ومكتفية بما فيها، بل تحاول التلوث، والإخطاء، والإنفتاح على الغير. فالكتابة تتجدد بالأخطاء، ولا يعود النص راكداً حين يبتعد كاتبه عن العفة.
من الناحية نفسها، يتعامل الكاتب، كائن الوحدة المفتوحة، مع الإجتماع في بيروت، بالطريقة ذاتها، التي يتوجه عبرها إلى النص. إذ لا ينطلق نحو هذا الإجتماع إيديولوجياً، معتقداً أنه سيدركه على هذا الأساس، بل يحاول تسييقه، أي الكشف عن سياقاته، أو خلقها، حتى تتغير دلالات الأحداث، واللقاءات، وتصبح علامات متبدلة باستمرار. ذاك، ليس على عادة المدينة، أي بالفصل المتناقض بين النهار الضاغط والليل الكحولي، بل بالإنتهاء من الهوة التي تعوق التفاعل بين وعي المدينة ولاوعيها الزمنيين. الممارسة الكتابية في بيروت، أكان في النص أم خارجه، هي محاولة لبناء المدينة في ليل لاوعيها، وتفجير مكبوتها، لا تسييله بالكحول فحسب. بذلك، تُكتب بيروت، لإنهاء ضغط النهار ودوار الليل، ومن ثم تأليفهما كإستمرار، وليس كإنقطاع.
لم تبلغ الكتابة، التي أمارسها، في الإجتماع على الأقل، درجة التسييق، بل لا تزال تتمرن عليه، وعلى محو معانيها الثابتة، حتى تتيح لي أن أسقط على الواقع بدونها. لا أزال في مرحلة التحيّن، التي تفصلني عن الكتابة بلا الكتابة، وعلى مغادرة بيروت، التي في النص، إلى بيروت، التي في المدينة. لكني، أشعر، في كل يوم، أن الإنتظار سينتهي، وأن المقبل سيكون على أحوال أخرى. ذاك، أني لن أمضي أيامي البيروتية كأني أكتب، كما لن أعود إلى هذا النص، كي أدرك علاقتي بالمدينة.
غداً، سأدخل سياقاً آخر، أكثر واقعية، ولا حاجة للنص خلاله. وسيكون سؤال "كيف أكتب في بيروت؟" قديماً، وسيكون نقاشي مع إحدى الصديقات حيال قدرتنا على التخلص من التأويل خارج حدود الكتابة، نقاشاً لا فائدة حاضرة منه. فالإنسلاخ انتهى، والكتابة ستبدأ من جديد، أما بيروت، فستظل تسمح لنا بالكلام المتناقض عنها. هي، بذلك، تجرّنا نحو الفخّ، فخّ رغبتنا بها، الذي، عن قصد، نقع فيه.