عندما سألني إدوارد سعيد: هل أنت مثقف؟

كمال ديب

هذه المقالة إلى الراحل #ادوارد_سعيد بمناسبة عيد ميلاده. فهو وُلد في أول تشرين الثاني 1935 ولو عاش لكان له من العمر 83 عاماً.

لقد تواصلتُ مع إدوارد سعيد ومع مساعدته زينب آبادي في جامعة كولومبيا في خريف 2002 وشتاء 2003 ليضع مقدمة كتابي بالإنكليزية حول أمراء الحرب في لبنان (صدر عام 2003). فشرح لي أنه لكي يعطي الكتاب أهميته عليه أن يقرأه جيداً وليس لديه الوقت قبل ست شهور على الأقل. قال لي إنّ أمامه الكثير من الكتب والدراسات ليكتبها، فسألته عن كتابه الصغير Representations of the Intellectual ولماذا لم يكتب عن موضوعه أكثر. فأعجبه اهتمامي وأجابني بسؤال: هل أنت مثقف are you an intellectual؟ فأجبته: إذا كان يقصد بسؤاله شروط المثقّف وقول الحق في وجه السلطة فأنا أمارس ذلك في حياتي اليومية. وفهمت ما يقصد أن على المثقف مسؤوليات عليه تنكّبها، أو كما نقول باللهجة العامية اللبنانية، "إنتَ قدّا؟" والجواب العامي "قدّا وقدود". وكنتُ أريد أن أنتظر ستة شهور لكي أعاود التواصل، ولم أكن أعلم أنّ وضعه الصحي قد تدهور بعد شتاء 2003، إذ توفي في 25 أيلول 2003. (ملاحظة: وضع مقدمة كتابي عن أمراء الحرب المفكر اللبناني #جورج_قرم).

لقد حدّد إدوارد سعيد المثقف كناشط اجتماعي وكملك فيلسوف. المثقفون هم الأشخاص الذين يتحلّون بالموهبة الاستثنائية وبالحسّ الأخلاقي الفذّ، فيشكلّون ضمير البشرية. ولكنّهم ليسوا معصومين وقد يقعون ضحية إغراءات ويخونون قضية الثقافة، فيتخلّون عن رسالتهم ويتعرّضون للشبهة. والمثقف الحقيقي يجب ألّا يقلّ مبدئية عن يسوع المسيح وعن سقراط، أو عن شخصيات أكثر معاصرة مثل سبينوزا وفولتير. وهذا المثقف الحقيقي يدافع عن المعايير الأزلية للحق والعدل، وهي – لكمالها - معاييرٌ ليست من هذا العالم. مقارنة بعامة الناس الذين لا يدافعون عن مثل عليا بل تسيّرهم الفائدة المادية ويأسرهم التقدّم الشخصي، فيقيمون علاقة وثيقة مع السلطة وأصحاب النفوذ السياسي. وهذا ما يفسّر سوسيولجياً كيف تنبثق طبقة حكّام فاسدة من شعب ينتخبهم في علاقة زبائنية كما هي الحال في لبنان منذ الاستقلال.

حتى لو أراد المثقفون التماهي مع المسيح وسقراط، فإنّ أسوأ ما يرتكبونه هو أن ينضووا تحت لواء السلطة ويتخلّوا عن واجبهم الأخلاقي. فيساعدون الطبقة السياسية – الاقتصادية الحاكمة، في ترويض الناس و"تنظيم المشاعر الاجتماعية" وغسل الأدمغة. ولعل هذا انطبق إلى حدّ ما على مئات المثقفين في لبنان منذ اندلعت الحرب عام 1975 وحتى اليوم، حيث يشارك بعضهم وبتحيّز سياسي مخزٍ، في إذكاء الروح الطائفية بطريقة خبيثة، وبإطلاق عنان غوغاء الجماهير والتعصّب الشوفيني وأحياناً العنصري، وبتبرير المصالح الطبقية للفاسدين في المجتمع. وهذا للأسف حال مئات المثقفين العرب في أكثر من بلد.

ويقول إدوارد سعيد إنّ الحكومات إنّما تريد أن يتحوّل المثقفون إلى خدّام لها يحوّلون الأنظار عن أعداء البلاد الطبيعيين بابتكار عبارات ملطّفة ولغة خشبيّة ونظام كامل من عبارات مقنّعة يمكنها أن تخفي ما يجري باسم "الشرف الوطني". فمَن يُلام إذن؟ المثقف الذي تخلّى عن رسالته وباع ضميره من أجل المال؟ أم الطبقة الحاكمة التي لن تتورّع عن توظيف مَن يخدم غاياتها؟ أم الشعب نفسه الذي لا يتحرّك ويتّحد لقضايا سامية تساوي وجوده؟

لا يملك المثقف خيارات عدّة. فإمّا أن يختار التكلّم بشجاعة وبدون تردّد ضد أعمال الظلم السلطوي والقمع والحماس الشوفيني الأعمى، وإمّا أن يسير كالغنم في القطيع. ومن هنا أهمية دور المثقف وميزته عن الآخرين في المجتمع، كشخص قادر على قول الحق في مواجهة السلطة، كفرد قاسٍ، وبليغ وشجاع إلى درجة لا تُصدّق، وغاضب لا يعرف أي قوّة دنيوية تكون كبيرة ومهيبة جدّاً بحيث لا يمكن انتقادها وتوبيخها على سلوكها. فعلى كل مثقف سواء كان أستاذاً جامعياً أو مؤلفاً أو شاعراً أو صحافياً أو مستشاراً لمسؤول سياسي، أن ينتقد باستمرار.

ويصرّ إدوارد سعيد على أنّ المثقف له دور محوري في المجتمع ولا يمكن تصغيره إلى مجرّد شخص مهني لا وجه له، كأنّه طبيب أسنان أو مهندس، أو كمجرّد عضو كفوء في منظمة أو شركة إو إدارة حكومية لا يهتم إلا بأداء عمله. وبالأحرى لا وجود البتّة لمن يمكن وصفهم بمثقّف "الخاص" privé، لأنّ المثقّف يدخل الحيّز العام في المجتمع منذ اللحظة التي يكتب فيها كلماته ثم ينشرها. وكذلك لا يمكن اعتبار المثقف شخصية عامة وكأنّه متحدّث باسم أفراد أو منظمات أو يصبح رمزاً لقضيتها أو يشكّل حركة أو يقدّم موقفاً ما، كأن يكون زعيماً سياسياً أو رئيس حزب. عليه دائماً أن يكون منفصلاً، ولكن أن يكون حاضراً بشخصيته وبحساسية خاصة به، وذلك حتى يكون معنى لما يكتب أو يقول، من دون أن يدغدغ مشاعر الجماهير أو يسعى لإرضاء الناس. فالعبرة الأساسية برمّتها أن يكون مُحرِجاً للسلطة ومناقضاً - بل حتى مكدِّراً - للصفو العام.

ولكي لا يترك أي مجال للشك في موقفه الاخلاقي، فإنّ إدوارد سعيد، يخصّص فصلاً حول موضوع "قول الحق في وجه السلطة". فيقول: "ما يثير مشاعري هي قضايا وأفكار أستطيع فعلاً أن أختار دعمها لأنّها تنسجم مع قيم ومبادئ أؤمن بها. ولذا فأنا لا أعتبر نفسي مكبّلاً في مهنة تدريس الأدب". ويصل إدوارد سعيد إلى إحدى خلاصاته الرئيسية أنّ أحد النشاطات الفكرية الرئيسية للمثقف يجب أن يكون استجواب السلطة. إذ أمام انهيار القيَم الانسانية وشرعة حقوق الانسان وكافة العهود والقوانين، فإنّ على المثقف واجب أن لا يفقد البوصلة، ويبقى دوره أن يطبّق مقاييس السلوك الرفيعة التي تدعو إليها الشرعات والمواثيق والتي وقّعتها الدول ويجب أن يسير عليها المجتمع الدولي بأسره . والاحتماء في مهنة لقاء المال أو في وظيفة تدرّ ذهباً واعتناق التعصّب الديني والعرقي الذي يغشى البصيرة، هي من مخاطر تدهور المثقف، حتى لو ما زال ضميره يوخزه عندما يقرأ صحف الصباح. وعلى المثقّف أن يحافظ على الحدّ الأدنى ويحافظ على واجبه الأساسي في مخاطبة السلطة في مجتمع المثقف نفسه.