أحد أجمل مساجد طرابلس... جامع العطّار تاريخ بحقبات مختلفة

طرابلس - رولا حميد

الجمال المميز، والتنوع، والقيمة المعمارية، والتاريخ، عناصر تجتمع، وربما مع عناصر أخرى لتجعل من "جامع العطّار" في طرابلس واحداً من أهم مساجدها، جامعاً في طياته التواضع والعظمة في آن، وهو تابع لمجموعة مساجد "دائرة الأوقاف الإسلامية" في طرابلس.

أصاب الجامع الإهمال، وحدثت فيه تشققات، وتجمعت المخالفات حوله بطريقة تكاد تخفيه عن الأعين، وبات الوصول إليه معضلة، رغم أن مدخله الرئيسي يقع على بعد لا يزيد على العشرة أمتار عن الطريق العام، علماً أن له ثلاثة مداخل وهو ما يعتبر من النوادر في جوامع طرابلس، ما يدل على أهميتة ودوره الكبير في العصور الغابرة.



سبّب الإهمال الكثير من الضرر في عناصره المعمارية، والزخرفية، والتوت أرضه، وطاله العبث، واكتشفت فيه بالمصادفة لوحات محفورة بالآيات القرآنية الكريمة، بالإضافة إلى بركة وفسقية كانت مطموسة تحت طبقات من الباطون، ما حدا بـ"دائرة الأوقاف الإسلامية" بالتعاون مع "جمعية العزم والسعادة" برئاسة رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي لتبني ترميم الجامع، وتدعيمه، بما ينقذه، ويحافظ عليه نظراً لما يزخر به من قيمة تاريخية، ما أدى إلى إطلاق مشروع بنفس طويل، لكن بمنهجية علمية غير مسبوقة في المدينة التاريخية.

يكتنز الجامع مختلف فنون البناء والزخرفة الرائعة الجمال، ويشكل حالة فريدة بين مساجد طرابلس، من كثافة زخرفات خارجية، وجمال مئذنة وارتفاعها، ومنبر رخام مميز.



يقع المسجد في المحلة المعروفة ببركة الملاحة، ويقوم بين البركة ومحلة التربيعة، وهو يبدأ من الجهة الشرقية للطريق العام الضيق في السوق، حيث مدخله الرئيسي، ويمتد إلى الجهة الغربية مطلاً على حارة أخرى وله بوابة مخصصة لها، إضافة إلى مدخل فرعي ثالث.

يدخل قاصد المسجد من الطريق العام إلى مسافة قصيرة لا تزيد على العشرة أمتار، ليشاهد الجامع قائماً، ولا يمكن تلافي الدهشة أمام إطلالة الجامع الجميلة، ومدخله، وزخرفاته الشديدة التنوع، وتمايزه بالمطلق عن محيطه.

يفيد حازم عيش وهو مهندس معماري مرمِّم ومسؤول في دائرة الأوقاف الإسلامية بطرابلس "أن المدخل هو من البوابات المميزة ضمن مساجد المدينة التاريخية. فهذا المسجد إلى جانب القرطاوية وطينال والبرطاسي والطويشية، يمثل قمة الإتقان التي وصلت إليها العمارة الدينية المملوكية في طرابلس.


وفي الداخل، جدران المسجد التي سلخت ورقتها في الثمانينيات، فظهر الحد الذي يوضح حدود توسعة المسجد العثمانية حيث تحول إلى وحدة بنيانية متكاملة لا يمكن فصلها، وصار المبنى كله يعرف بـ"جامع العطّار".

وغالباً ما استعمل المماليك المنابر الخشبية بينما العطار يحتوي على المنبر الرخامي المملوكي الوحيد في طرابلس.

تاريخ الجامع

تتباين التقديرات لتاريخ بنائه، استناداً إلى المؤرخين الذين تناولوه، ويحدد المؤرخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري بناءه سنة ٧٣٥ هجرية، أو قبل ذلك بقليل.

ويفيد تدمري، المتعمق بالشأن المملوكي، أن الجامع "أسسه بدر الدين بن العطّار، أحد العطارين الأثرياء في طرابلس، ولذلك نُسب إليه".

وتشير هندسة الجامع إلى أن هناك اختلافاً في حجارته، ويظهر خط الوصل بين القسم الشمالي القديم الذي تتوسطه قبة محملة على مثلثات فريدة في المدينة.

يتكون حرم الجامع من أسطوان واحد مستطيل الشكل يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويبلغ طوله ٢٢،٥٠متراً، وعرضه ١٤،٥٠ متراً، وبه عشر عضاضات ضخام، وفي داخله يحوي بعض التجويفات الهندسية في القبة.

للجامع ثلاثة أبواب. أحدها في أقصى الشمال يؤدي إلى السوق الجديد، وهو أصغر أبوابه. ويلاحظ تدمري أنه "تقوم فوقه السدّة الخشبية، وهو حديث البناء. أما الباب الثاني فهو في جهة الغرب بمواجهة خان الجاويش، وهذا الباب أقدم أبواب الجامع، وهو من عمل المعلم "أبو بكر ابن البصيص"، وقد نقش اسمه فوق عتبة الباب الخارجية، وهذا نص النقش: "عمل أبو بكر ابن البصيص الله رحمه تعالى".



الباب الرئيسي

يقع الباب الثالث في الجهة الشرقية، وهو أجمل أبواب الجامع، كما يعتبر الباب الرئيسي، وقد بني مع المنبر في سنة ٧٥١ هجرية على يد المعلم محمد بن ابراهيم المهندس، ونقش ذلك فوق عتبة الباب الخارجية في سطر واحد هذا نصه:

"بسم الله الرحمن الرحيم هذا الباب المبارك والمنبر عمل المعلم محمد ابن ابراهيم المهندس في سنة واحد وخمسين وسبعماية".



المنبر

يعتبر منبر جامع العطار المنبر الرخامي الوحيد الذي بناه المماليك في مساجد طرابلس، بحسب تدمري، وقد بني في نفس السنة التي بنيت فيه البوابة الشرقية للجامع كما جاء في النص التاريخي، وهو من الرخام الابيض، يبلغ طوله ٣،٤٠ أمتار، وعرضه ٩٥ سم. وفوق عتبة باب المنبر رخامة فيروزية اللون نقش عليها ما يأتي:

"فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"

وعلى الجانب الغربي منه نقش البيت الآتي:

"فاعتبر في وفي نفسك تلقى كل واعظ"

وقد تبين من خلال الأبحاث المرافقة للمشروع الحالي أن المنبر قد جرى تعديله سابقاً بشكل غير موثّق، ما أفقده شيئاً من أصالته، بينما تم استعادة شكله الأصلي المتكامل ضمن ورشة الترميم الحالية التي ستعيد المنبر كعنصر مملوكي متكامل العناصر.

مئذنة الجامع تعتبر واحدة من أجمل مآذن طرابلس المملوكية، ويلاحظ تدمري أنها "أقرب إلى البناء الحربي منه إلى البناء الديني، فهي عبارة عن برج مربع أكثر ارتفاعاً من بقية مآذن المماليك في طرابلس".

ويوضح عيش "أن المئذنة هي أعلى مآذن المدينة التاريخية، كما لوحظ وجود ميل في قسمها السفلي ثم تعاود المئذنة استقامتها".

عاين تدمري المئذنة، وأفاد أنها "تتألف من ثلاثة أدوار، فيها إفريز بارز في منتصف ساقها تقريباً، أما الدور الثالث فهو برج بشرفة مكعبة يوجد في أسفلها مقرنصات، ومدلّيات ترتكز على أربعة اعمدة رخامية في أركان المئذنة".


لوحات أثرية

خلال أعمال الترميم، وُجدت في إحدى زوايا المسجد مجموعة من قطع الرخام والأحجار القديمة عليها كتابات مخطوطة بالرسم المملوكي، كما وجد بعضها مدفوناً تحت الأرض، ولدى تفحّصها تبين أنها تحتوي على أجزاء من آيات قرآنية من ضمن سورة "المؤمنون" وهي حالة نادرة في طرابلس.

وتفيد مصادر في "دائرة الأوقاف الإسلامية" أنه من الغريب أنها ليست سورة "الكهف" وليست "الواقعة" وليست "ياسين"، والتي من المتعارف عليه أنها من أهم السور التي تتم قراءتها عند الموت أو المناسبات، بينما سورة «المؤمنون» غير متداولة.

يلخص عيش عملية الترميم الجارية وحيثياتها: "تتم إعادة تكوين شبكة البنى التحتية في المحيط كما يتم التنسيق الكامل مع مديرية الآثار لتوثيق وحماية الموجودات بعد أن فقد الكثير منها سابقاً، كذلك تدعيم جدران المسجد والمئذنة بشكل علمي مدروس. ويجري تنفيذ توسعة مع مدخل ملائم للنساء مع تأهيل تجهيزات المسجد بشكل عصري وعبر تصاميم احترافية، أما التصميم الداخلي للمسجد فهو مستقى من العناصر المملوكية الموجودة مع الإضافات العثمانية بما يحافظ على أصالة البناء بينما يتم تدعيم و تأهيل الأبنية المتداعية في محيط المسجد مع متابعة لصيقة من جمعية العزم والسعادة ودائرة الأوقاف الإسلامية".


ولفت عيش إلى "أن المشروع لن يتوقف عند افتتاح المسجد، والمشروع لم يقتصر على تجهيز المسجد داخلياً بالأمور الاعتيادية، بل تجاوز ذلك إلى تأهيل المساكن المجاورة وتحسين البنى التحتية في المحيط ... فإن المنهجية المتبعة بالتنسيق مع مديرية الآثار يؤمل أن تؤدي إلى مشروع علمي قد يكون الأول من نوعه موثقاً عناصر البناء ومنهجيات وعناصر الترميم انطلاقاً من الحفريات الأثرية عند الأساسات، وصولاً إلى قراءة الهيكل الإنشائي وما يحكيه من تعاقب في توسعات المسجد".