جميل راتب يترجّل

رضا نازه- المغرب

#جميل_راتب الممثل الجميل في ذمة الله، رحمه الله رحمة واسعة. كان اسماً على مسمّى. فنانا من طينة الأساتذة الفنانين المصريين العمالقة ذوي الرسالة في ما يقدمونه وينجزونه، طبعا بإشراف أساتذة مخرجين، وقبل ذلك أساتذة أصحاب قصة وسيناريو دسِمين. ذاك كان دأبَ جيلٍ منهم بأكمله. لا فن معتبراً لديهم إن لم يكن ذا رسالة وقيمة في ثناياه.

من كل أعماله الفنية القيمة، الشريطُ السينمائي الأحب إلى نفسي والذي طبع مخيلتي منذ الشبيبة هو فيلمه "البداية." طرافةٌ في الموضوع وعبقرية في الأداء، وكذلك بسبب المناسبة التي شاهدته فيها. كان ذلك صيف 1987 أو 88. كان المهرجان الدولي للسينما قبل نقله إلى مراكش وإلباسِه ثوب البهرجة والزخرف، كان ينظم في فضاء خزانة دار الثقافة بمدينة الرباط، لمن يتذكر ذلك. كانت تُنصب في حديقتها شاشةٌ بيضاء عملاقة، ومدرجات للمشاهدين، وكان يحضره فنانون ومخرجون وكتاب من العالم العربي ومن أوروبا وأمريكا. كنت تمر قبيل انطلاق العروض قربهم تلتقط معهم صورة إن أسعفتك الشجاعة والجرأة، وإلا فبحكم الشباب والفتوة كنت تكتفي بالنظر إليهم والتأمل في حركاتهم وكلامهم، إن التقطت شيئا منه. كانوا يعرضون أفلامَهم الجديدة عرضا عاديا أو ما قبل أولي، ثم يلتقون بعد العرض رفقةَ أبطالِ أعمالهم بالنقّاد والمشاهدين والمهتمين، مغاربة وغيرهم، يسمعون ويجيبون عن تساؤلاتهم. وكان أن حضرت معظم أفلام دورة المهرجان تلك ومن بين الأفلام التي عُرضت كان فيلم البداية (أو امبراطورية نبيهاليا) للمخرج العبقري صلاح أبو سيف وبحضور الفنان جميل راتب. مباشرة بعد العرض التقينا المخرج صلاح أبو سيف في قاعة دار الثقافة الواسعة، وما زلت أذكر أني وجهت له سؤالا وأنا حينها شاب غِرٌّ لم يبقل ذقني، ولم يَطِرَّ شاربي (كما قال ابن عربي، يعني بذلك لم تنبت له شعرة في وجهه بعد) كان السؤال عن أيهما يحق له الاعتبار الموهبة أم الممارسة؟ ابتسم وأجابني جوابا حكيما حول تكامل العاملين. قد يبدو السؤال بسيطا، لكنه بالنسبة إلى سنّ الشباب كان ذا أهمية قصوى لأن صاحبَ أي موهبةٍ قد يظن أنه بمجرد ظهور إرهاصاتها يمكنه أن يستغني عن معاناة صقلها وشحذها بالتلمذة لمن سبقه، وحين يأبى ذلك استغناءً برأيه قد يفشل ويسقط في فخ الإحساس بالضحية ولعنة الفنان كما رسَّخ ذلك شارل بودلير..

l’artiste est un enfant maudit !

هذا عن ظرف الشريط. أما عن موضوع الشريط فكان رائعا بكل المقاييس. كان يؤرخ بشكل درامي رمزي "مينياتوري" ساخر لنشأة السلطة السياسية المطلقة. طائرة مسافرين من أطياف ومشارب متعددة يصيبها عطب فوق الصحراء، ولحسن حظها لم يكن العطب قاتلا. استطاع ربانها أن ينزل بها في الصحراء. ينجو الطاقم والمسافرون ويمضون في طريق البحث عن إغاثة. يَصلون واحة مهجورة فيها نبع ماء ونخلٌ وبلح. طاقم الطائرة وفاءً بمسؤولياتهم يتركون المسافرين هناك ريثما يعودون بوسيلة إنقاذ. العجيب هو أنه في ذلك الظرف الانتقالي الوجيز (وهو يرمز إلى قصر الحياة الدنيا برمّتها والتي يظنها الحاكمون خالدة مخلدة)، يقوم أحد المسافرين، وهو رجل أعمال اسمه نبيه، (هو جميل راتب مربط فرس الشريط،) يقوم من خلال خبرته في الأعمال وتسيير الشغّالين بمحاولة تنظيم الواحة في شكل دولة يكون هو حاكمَها المطاع، من خلال استحواذه على نبع الماء وجعل البلح عملة لها.. وفعلا من خلال حيل وتلاعبات يستطيع نبيه إخضاع الواحة فيستتب له الأمر أو يكاد، ويسميها باسمه، "امبراطورية نبيهاليا". ويستخدم المسافرين كُلًّا حسب مهاراته فى جمع البلح، وتخزينه وصناعة العجوة منه، ويجعل لهم أجرا بسبع بلحات فى اليوم، ثم يسخّرهم فى بناء محل إقامته. ولا ينسى نبيه في غمرة تأسيس دولته تلك أن يستعين بخبيرة كيميائية كانت بين المسافرين، ليصنع خمرا من التمر. هنا تبرز جدلية وضرورة توفر الخمر وكل ما يُذهِب العقل والتمييز مع الاستبداد. ولا يكفي ذلك، بل يستعمل نبيه صحافية كانت من ضمن المسافرين جاسوسة له، ويتخذ بطل ملاكمة كان في الأصل نجارا بسيطا أسعفته الظروف عبر استمالته إليه وإغرائه، يجعله أداته التنفيذية/القمعية.. ولن ينجو من قبضة حكمه الباطل إلا فنان تشكيلي شخَّصَه العبقري الراحل أحمد زكي..

لكن في الختام، وبعد استتباب الأمر له، وفي سكرة الحكم وخمرته، يعود طاقم الطائرة بخبر نجاة المسافرين وقرب وصول وسيلة إنقاذهم من الضياع في الصحراء وفي متاهة حكم الفرد العربي..

فيلم رائع بجميع المعايير. ويبقى صدى صيحة نبيه (جميل راتب) تُردده الصحراء في شكلٍ يلخص لوحده ترفَ المتحكمين في رقاب الناس أو من لهم الاستعداد لذلك، وتجذُّرَ نزواتِهم. كان يصرخ في حر الشمس في وجوه المسافرين المنكوبين معه ومثله "ما فيش مية صاقعة؟ (أليس هناك ماء بارد) .. ما فيش كباية (أليس هناك كوب)؟" كأنهم خدَمٌ لديه. 

رحم الله جميل راتب وصلاح أبو سيف وأحمد زكي ومن مات ومن بقي.