أحمد مصطفى في غنائية المحمول على دوال النرجسية المنكسرة

أحمد الشيخاوي

نجد لنرجسية الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد، تمركزاً وثقلاً في مجمل نصوصه التي وإن تطبّعت بسجْعتيها، تقبع مخلصة لتوجه اختاره هذا الاسم، منذ البدء، وتشكل ملامح تجربته الآخذة في فرض احترامها. وهي نرجسية نازفة باستمرار، ومثمرة لمشاكسات حقيقية على امتداد ظلال انشغالات الذات الشاعرة بما هو جزء من فسيفساء يزدان بها الأفق الإنساني متجاوزاً بكونية الوجع، معاناة العروبة والانتماء في حدوده الضيقة، ووفقاً لترامي معانيه الموغلة في ملمح الحزن ومكامن العتمة في العالم والآخر والحياة، وكأنه لا يطيق لمنجزه سوانح الفكاك من عوالم خفيضة تدمن نبع تلكم الغنائية المرثاة لراهن تتقاذفه الهواجس التي تتنفسّ عذابات العروبي والإنساني على حد سواء.

نصوص من الرونق بمكان، لو أنها تتخلّص من بعض الحشو الذي يطعّم المعنى بغرابة تتجاوز المقبول، ولو أنها تقطع مع الزوائد المتسبّبة بتيه المعنى وعدم توافقيته مع معمار القول الشعري عند نزر المنعرجات التي قد تدشنها ارتجالية تجيء ضداً على قصديات القول الشعري داخل تخوم القصيدة الغنائية المنذورة لتلميع التموقع النرجسي في انتصافه منزلة المابين أو مسايرته لطقوسيات برزخية الانشطار بن وعْيَيْن: الحسّ العروبي المتقّد والبعد الرّسالي الإنساني.

لكن تمكث هذه الثغرات محدودة لا يهتزّ لها حقل تذويب الفكرة الجديدة المواكبة في الملمح الفانتازي المرتقي بالشعرية على نحو ينمّ عن تمكّن ودربة ومراس وخبرة طويلة في الحياة والإبداع.

هذا، وتمثّل الخلفية التاريخية، الوقود الأساسي في تجربة الشاعر المصري احمد مصطفى، لما تحوزه من تجليات حِكمية مغرقة في تدوير أخطاء التاريخ، ليس العربي فحسب، بل تتخطاه إلى العالمي، والجة بالعقل في حيرة وجودية منقشعة للصفحات الإنسانية الأكثر إشراقاً وبروزاً في الصيرورة البشرية، مما يضفي نكهة خاصة على شعرية تشير في هذا الاتجاه الضاغط بغنائيته المعرية للنرجسية المنكسرة بالكامل.

عوالم موحية جداً، تدور بالمتلقي دورة كاملة مع الرموز التي صنعت التاريخ، وليس العكس، كي تمنحه لذاذة العيش خلف زجاج الذاكرة، وانصياعاً لماضوية مغرية بالأمجاد، حين يُلفظ الأبطال فيحالون على التقاعد المحرج، تحت قناع إيديولوجي، يشفّ عن حقيقة مرّة كامنة في إقبار رمزيتهم، وإعفاء طبقات العامة والبسطاء من مطبّات جمّة وتكبّد وعثاء أشبه بمغامرة مجنونة وحرث في الهواء قد يقود إلى زعزعة المعتقد والردّة دينياً، وربما يصل إلى مراتب التأليه.

نعرّج على الاقتباسات التالية، ليتضح لنا مدى قصدنا من الطّرح الذي يعنى بمثل هذه الغنائية المحتفية بنرجسية يقدّها انكسارها ما بين معنيين زئبقييْن يلامسان بهشاشة الدال الشعري ذائقة تختنق بسحرية الواقع، وتتطلّع إلى انفلاتات تنشّق هواء حياة الاستعارة وجبروت الخيال، تشخيصاً ومعالجات لأوبة مجتمعية عدّة، لا مجرّد هروب نرجسي مراوغ فقط.

[آه يا قلبي /أنا الغانية/ يؤثرني بالبكاء هذا الفارس/ نحيبه /ردني قديسة /وبلا حجاب يسكب كل أوجاعه /ارم سيفك المكسور سيدي/ المتقطر انكسارات/ ولتهنأ ملاكي اليوم بساعة نوم/ ولك القد مهد والنهد وسادات/ وغدا أمر].(1).

................

[ منذُ احترفَ إطفاءَ نشوتِهِ / بمشاهدةِ أفلامِ "البورنو" / وحفرَالفضولُ تفاصيلَ التفاصيل/ ما إن تقعُ عيناهُ الملهوفتان انتشاءً/ على غيداء/ لم يكترث بالأستار/ مازاد منها ].(2).

............................

آياتي / نفخة روحٍ من الشابّي / أحمد مطر... دنقل / والمتيم نزار... والحلاجِ الساكنِ فيه الإله/ يا من ساقتْه الأقدارُ هنا، أنذرْ موتَى الروحِ/ عشْ حرًّا وعبّقِ الأرضَ بمسكِ دمائِكَ/ احفظ ماء وجه الوطن بين أقرانه من الأمم/قف ب"لا" في وجه من تآمر وقامر أومرّر/شهد النيل وأبكى بنته القمر].(3).

.....................................

[تموتُ ببطءٍ /إذا أبصرتَ الجوعَ في عينِ صبيّ/ رائحةُ الشواءِ/ أوقفتْهُ كالعابدِ لا يفارقُ الإلهَ].(4).

......................................

[فأقم الليلة عرسي / وبي أَسْرِ لسدرة منتهى العشق / فهناك لا أحد سوانا / يعكر صفو أنسي / سوى آهات تسبق / آهات].(5).

..................................

[والأناملُ/ عافتِ الطرحَ التفاحَ والنبقَ/ أنا سيدُ الحزنِ / ودّعتني المزن باكرًا / فتشقّقَ فانبثق الحنقُ / بركان الغضب اللهب / فالتهبَ فتيلُ الأملِ/الحلم خطاه شريدة/فالقبض بصيص/ولا قميص لدي/ولا عصا/ ولا براق/والغد محاق/والهلال مبستر في حياء/سلب المبشمون زخرف السحاب/ أنا سيد الحزن].(6).

...............................

[مساءَ الغرامِ أيها الفارسُ النبيلُ / مساءَ السحرِ أيها الشاعرُ العليلُ / ومنْ أخبرَكَ بحالي / يا سيدي حتَّى للغواني بصيرة لا تخيبُ /فلا يخدعكَ غنجُهنّ / وهن أسيراتُ عوزٍ / عيناك المختبئتانِ هجرًا غدرًا دليل / والقطوع وشحوبُ الجبينِ / والهامة التي لا تلين].(7).

استدعاءات بالجملة للرموز، وتمكينها من تقميط المشهد ضمنياً، حدّاً يربك المتلقّي ويدعوه إلى دقّ ناقوس الاستغاثة بمحطات التاريخ الإنساني مُترسناً بملاحم الصناديد وهم يلتقون في نضج الشخصة ورجاحة الذهن وهضم واقعهم السياسي، عند حدود المشترك الإنساني في ذروة منحنى إهليلجيته، وهي نزعة مفضية إلى منطق المعدلات الرياضية، المخرجة من التوغلات القلبية المنصهرة في بوتقة مشاعر جامحة مستعرة، إلى فسحة تأملية الهيمنة فيها والبطولة الكاملة لعقل يعاود تدوير أخطاء التاريخ ومنحها مقاربات جديدة فعّالة وناجعة، وهنا تكمن مفارقات القول الشعري المتنطّع بدوال نرجسة ما تفتأ تنفث قيامتها أو جحيميتها التي تنعس هشاشة وقابلية للانكسار على ما سوى ذات تحرجها لحظتها كي تعطيها أسباب العقوق والانجذاب إلى جذور الأمجاد في معجم كوني شامل يفيض عن معناه مغالباً ثقافة السلبية والنقص المختزلة في سلطة الفوارق والتبجّح بمفاضلات اللون أو العرق أو المعتقد.

إذ بالطريقة التي أبدى الانكسار، زمن الوصل الأندلسي، للقائد العظيم طارق بن زياد، بعد صولات وجولات مكّنت للرسالة الخاتمة امتدادها المطمئن، عانى هذا الرمز الأمرّين لمّا رضخ لقهرية اعتزال الفروسية، ما اضطره لبيع سيفه انتهاء مقابل ما يعود بالكائن إلى مراحل جنينيته الواشية بالضعف والفاقة الوجودية التي تحتّمها سادية الحكم وتمليها تعاليم كاريزما الايديلوجيات والأنانيات الواهية المرتجى منها إطفاء بعض من جشع وغرور الزعامة أو الولاية حتى.

ونظير هذا المعنى الاستفزازي والمفخخ بجرأة زائدة في محاولات فضّ بكارة التابو، في شعرية احمد مصطفى، وفير وغزير جدّاً، حد تطريز أفق الحكاية بنثار الذاكرة المفتية بمنظومة انتهاكات مدغدغة بملمح توريط القصيدة بغنائية ترتّل آي الهزيمة وهي تسدل ستار البطولة والفروسية والإقدام والفرّ والكرّ، عن رموز، كسرتهم الأيديولوجية مع مطلع أولى فصول أعمارهم المثقلة بالأمجاد .

إحالات:

(1) قصيدة " دم ينهمر فجيعات".

(2) قصيدة "بهيومي".

(3) قصيدة "عند حافة هاوية الوطن".

(4) قصيدة "نموت ببطء".

(5) قصيدة " فأقم الليلة عرسي".

(6) قصيدة" هاتف منتصف الليل وبكاء".

(7) قصيدة " الفارس المهزوم".


شاعر وناقد مغربي