"أنا مُدمنة وداليا توفّر لي الجُرعة التي أحتاج إليها!"

المسألة حُسمت منذ فترة لا بأس بها، وربما حان الوقت للوقوف وجهاً لوجه مع "شياطين العالم السُفلي" ("يا لطيف!")، أو ربما فقط أمام شياطيني الداخليّة (وغير المَنظورة!)، لأعترف، بما تبقّى لي من كرامة، بأنني مُدمنة على القهوة، وأحتاج إلى أكثر من جُرعة يوميّاً ("شي 6-7؟) لأتمكّن من مواجهة حياة تستفزّني وتُهدّدني بالابتزاز، ولكنها حتى الساعة لم تتمكّن من أن تغلبني ("بس يمكن الخير لقدّام!"). 

نعم، أعيش الإدمان "الشهيّ" الذي أنغمس في رواقه، وأدلّل نزواته، وأهدهد توقه الشديد والمُفاجئ أحياناً، والقهوة حوّلتني أسيرة مذاقها المرّ والأشبه بإكسير هذه الحياة العابِرة (ولكن يا إلهي! كم هي جميلة!).

وسيكون لي، في الأسابيع القليلة المُقبلة وقفات عدة مع الأماكن المُتخصّصة في القهوة، التي تُناديني بعبيرها الخاص ما إن أستيقظ من نوم ترقص فيه أحلامي التي لم تتحقّق بعد. كما تعدني بقصّة تستريح على الأحاسيس "المُضطربة" والمُغرية في آن، ما إن أغوص في عالم النوم، مساءً، فتعطيني تالياً سبباً لأستيقظ من أجله، صباحاً، وأنا في كامل نشاطي(!).

"يعني" في كل الأحوال هي لي بالمرصاد في كل المُناسبات.

وهل أجمل من أن أعيش طقوس إدماني هذا الذي تسبّب لي في "شَرشحة" بين الأصدقاء والأقارب (عقارب؟!)، ربما أستحقّها، في فُسحة Kalei Coffee Co. القائمة في أحد الشوارع الفرعيّة المُنبثقة من مار مخايل والأشبه بريف منسي يعيش سُكّانه الهناء المُطلق لأنهم فهموا أن "أطراف" المُدن لها خصوصيّتها الساحرة التي تتفوّق أحياناً على وسط المدينة؟

بما أنني مُدمنة، وأعلنت عن إدماني بالصوت العالي في السطر الأول، خوفاً من "الشمّيتة" والأعداء الذين ما زالوا حتى الساعة، ومنذ سنوات لا يُستهان بها، غير مَنظورين(!)، توجّهت إلى فُسحة "كالاي" المُختبئة بين المنازل القديمة المُسيّجة بالأشجار الطويلة "يلّي بتوصل خصل شعرها لباب السما!".

ولأكثر من ساعة، "تتلّمذتُ" على يد الشابة المُغامِرة التي تجوب العالَم بحثاً عن حُبوب البن الجيّدة لتُحمّصها في فُسحة "كالاي" أمام الجميع وتُحوّلها تالياً، قهوة، يليق بها الإدمان.

نعم، داليا جفّال، صاحبة الفُسحة، تحوّلت إلى أكثر من ساعة، أستاذتي في مادة القهوة. فهي درستها وتعمّقت في أروقتها، وهي تُحوّل مسألة تحميصها، مادة أدبيّة تُروى في المَجالس ("هيك لنبيّن إنّو منفهم بكل المواضيع!").

وسُرعان ما اكتشفتُ أن هذا المكان الذي يستقبل الكلاب (وأصحابها أيضاً!) برحابة صدر، هو في الواقع، الملاذ الآمن لكل من يعشق القهوة.

 وأين المُشكلة إذا كان هذا العشق يُجاور الهوس؟

"بتصير بأحسن عيل"!

وداليا تُصرّ على أنها تُجلب القهوة مُباشرةً من المُزارعين في مُختلف أنحاء العالم.

أمّا إسم الفُسحة التي يقصدها كُثر هرباً من أنغام المدينة غير المُتناغمة أحياناً، فهو يغمز إلى طقوس القهوة في أثيوبيا، حيث يُعامَل هذا السائل السحريّ وكأنه "قصيدة"، يروق للذوّاقة أن يغرقوا في كلماتها الآسرة، أكثر من مرّة يومياً.

داليا تخصّصت في تحميص القهوة في إحدى جامعات الدنمارك العريقة، وأصرّت على جلب الإضاءة والمحمصة مُباشرةً من هناك. كما تعمّقت في دراستها في تحضير القهوة في بريطانيا وإيطاليا.

وأكدت لي أن التحميص في فُسحة "كالاي" لا يتم مُسبقاً وقبل أيام عدة، بل يجري تحميص الحبوب بأعداد صغيرة. وإذا أردنا أن نضع ولعنا وهيامنا "على جنب"، لا بد من أن نعرف، أن تحضير القهوة "مش مزحة"، وتتضمّن العمليّة الشديدة الدقّة، الكثير من علم الكيمياء، ليكون السائل في حلّته الأخيرة، لذيذ المذاق ولا يختلف أبداً عمّا كان عليه في المرّات السابقة.

"أجوب العالم لأحصل على الحبوب الجيدة. من أثيوبيا إلى كولومبيا وهوندوراس ورواندا والكونغو. وأشتري الحبوب الخضراء لأحمّصها لاحقاً".

داليا، تعشق القهوة ("يعني إسمحيلنا، بس أقلّ شي!")، ولطالما اختارت السفر مزوّدة "ببنّاتها الخاصة".

والدتها تعشق القهوة أيضاً.

 تُعلّق ضاحكة، "أمي تستيقظ لتحتسي القهوة".

 واليوم، أصبحت والدتها مُدمنة على "قهوة بنتها" التي لا بد من الاعتراف بأنها غريبة المذاق ويجب أن نعتادها، بدايةً، قبل الانتقال إلى "منطقة الإدمان".

تقول داليا إن البعض يُفاجأ بمذاقها الذي يميل إلى الحموضة. "هذه الحموضة تتكوّن نتيجة التحميص الخفيف. فهنا في كالاي لا نحرق الحبوب أبداً. لأن حرقها يُعرّيها من نكهاتها. يُمكن أن تستمر مرحلة التحميص 16 دقيقة. فنحن نعتمد التحميص البطيء".

لا بأس، فلتُحمّص هذه الشابة حبوب البن "على مهل" ولتكن القهوة، في إطلالتها النهائيّة غريبة المذاق.

المهم، "ومن الآخر"، أنني اعترفتُ من السطر الأول بأنني مُدمنة.

وها أنا أنهي هذه القطعة النابعة من قلبي، باعتراف ثانٍ:

 كمدمنة "مُعتمدة"(!)، وجدتُ في قهوة داليا، السائل الذي يُبرّر إدماني، ويعطيه "هيك" إطلالة أنيقة!

للإدمان، إطلالة أنيقة؟

لم لا!


     Hanadi.dairi@annahar.com.lb