كانّ ٧١ - "البيت الذي بناه جاك" للارس فون ترير: رائعة الفنان الملعون والروح المعذّبة

رداً على سؤال "ما التغيير الحاصل في عالم السينما منذ سبع سنوات؟"، يمكن قول الآتي: فيلم من توقيع لارس فون ترير - وهو أفظع شيء مصوّر شاهدته حتى الآن -، بات يُعرض خارج مسابقة كانّ وليس داخلها!

فبعد دعوته مجدداً إلى كانّ لعرض "البيت الذي بناه جاك"، واضح ان القائمين على المهرجان أوجدوا حلاً وسطاً. لقد غفروا له مزحته التي كلّفته استبعاده من المهرجان لبعض الوقت، لكنهم وضعوه في الهامش. الا ان "قمعاً" كهذا لا بد ان يأتي بنتائج عكسية، ففيلم فون ترير بات على كلّ لسان منذ لحظة صعود جنريك النهاية مساء الإثنين. وهذا حق، وخصوصاً بالنظر إلى ان بعض أفلام المسابقة ("فتيات الشمس" على سبيل المثل)، لا شيء أمام هذا الفيلم وجنونه وعبقرية خاتمته.




نحن أمام ضربة معلّم جديدة من المخرج الدانماركي، المستفز على الدوام، هذا الذي كان يوهمنا مع كلّ جديد له بأن سينماه وصلت إلى حدودها القصوى، ولكن كما يظهر بوضوح، لا فضاء يمكن ان نحصر فيه جنونه الخارج عن أي حساب. في الأخير، "البيت الذي بناه جاك" ضمن للمهرجان لحظة الذروة التي يبحث عنها في كلّ دورة، تلك الذروة التي تنسينا كلّ ما جاء قبلها، فوحدها الفضيحة المبرمجة تصمد في البال.

نحو من ستين جريمة في سجلّ جاك (مات ديلن في أداء بديع)، يوثّق منها الفيلم لحماً ودمّاً خمساً موزعة على فصول ويتم تقديمها باعتبارها أعمالاً فنية. جرائم مجانية مروعة، سادية، تختلف فيها أساليب القتل المقززة. جاك يهوى قتل النساء، مع ان لديه ضحايا رجال كذلك وبعض الأطفال. جاك مثقّف، مكابر، مطّلع على التاريخ ومنظّر للفنّ. لا نعرف الكثير عن ماضيه، لقطة واحدة تمدّنا ببعض المعطيات عن أصول الشر عنده.

في العودة إلى موضوع مجانيّة جرائمه، دعوني أصحح شيئاً كتبته هنا: جرائم جاك ربما ليست مجانيّة تماماً، فهي تغذّي مخيلته وحاجته إلى التحقق، يرسم عبرها لوحة فنية. المجرم جاك ليس مجرماً فحسب، هو فنان يترك بصماته على أجساد ضحاياه التي تُستخدم لبناء تحفة فنية داخل براد. الموضوع لا شكّ سقيم، أيقظ الشياطين والوحوش النائمة داخل فون ترير، وربما داخل البعض منّا، الأكثر هشاشة، لكن هذه الوحوش لا تشبه أياً من التي نعرفها.

"البيت الذي بناه جاك"، عمل "خطير" يحرر مشاعر مكبوتة، يقرّب المسافة بين النزعات، يحكي عن الصراع الأبدي بين الحاجة إلى الخلق والرغبة في القتل. لم يسبق ان رأيتُ فيلماً يقترب فيه القتل إلى عملية الخلق بهذا القدر، وبهذه الدرجة من الاحتكاك، لينتهي كلّ شيء بخطاب إنقلابي عن الخير والشر ولكن على نقيض أفلام الـ"سوبرهيروز"… هذا كله يجري في مكان وزمان غير محددين تماماً، فخطاب الفيلم خارجهما.

بصرياً، الكادرات الخاضعة لهزات طفيفة ومحددة، بالإضافة إلى اللمحات المونتاجية، تؤكدان ان فون ترير لم يخرج كلياً من دوغما ٩٥. هذا بالنسبة إلى الصورة. أما الصوت فشيء آخر. دردشة طويلة بين جاك ومحاور لن نكشتف هويته الا في الأخير (برونو غانز) يتحدثان فيها عن كلّ شيء وأي شيء، من وليم بلاك إلى ما لا يمكن ان يخطر على بال أحد. الشريط الصوتي يغدو مختبراً للأفكار والنظريات الراديكالية بين الطرفين. لا مبالغة في القول ان فون ترير يقدّم هنا الفيلم المنتظر الذي تأخر كثيراً. أكاد أسمعه يقول ان الفنان الكبير هو ذاك الذي يبني ليخرّب. لا وجود للفنّ خارج إطار الرغبة في التدمير الذاتي. يجازف فون ترير في كلّ المجالات الحيوية التي صنعت فيلمه هذا، كأنه يسدد حسابه مع المناخ السياسي الحالي الذي حدد المعايير الأخلاقية التي ينبغي للفنّان الصالح ان يلتزمها. فون ترير لا يلقننا درساً، ولا ينحاز إلى أي جردة حساب أخلاقية.

عنصر ثالث يتدخّل في الفيلم ليهز كيانه: صور من خارج السيرورة الدرامية. انه الواقع العاري بكلّ فجاجته يفرض نفسهفجأة. لا يخشى فون ترير السخرية عندما يستخدم مقاطع من أفلامه ليأتي بها كنوع من دليل على خطابه. هندسة، سياسة، مراحل تخمر العنب لتحويلها نبيذاً، هولوكوست، غلين غولد وهو يعزف على البيانو… كلّ هذا يمر على الشاشة بإيقاع جهنمي ليرمينا في حضن أفظع جرائم القرن العشرين.




"البيت الذي بناه جاك"، حيناً ثريللر وحيناً كوميديا سوداء. تحسب لفون ترير هذه المجازفة في جعل جاك، نوعاً ما، الناطق باسم الفنّان الذي يجسده. وليس أي فنّان، بل الفنّان الملعون الذي لا يفهمه أحد والذي يشعر بالمظلومية.

خطاب فون ترير حمّال أوجه، وخصوصاً انه يتركه مفتوحاً على "خاتمة" ينسف فيها كلّ شيء. أكثر من ناقد سيضع الفيلم على المشرحة محاولاً اسقاط أخلاقياته عليه، وهذا ما يسعى اليه فون ترير، لكنه هذه المرة مستعد لذلك. فهو يتغذى من سوء الفهم هذا، الذي تولده أعماله.

أعظم شيء فيه هو انه كتابٌ مفتوحٌ. ورشة عمل لا تنتهي. فيلمه أبلغ ردّ على كلّ المحاولات لترويض الفنّ وتأطيره وجعله مفيداً وهادفاً وجميلاً. هذه سينما لا يصنعها سوى شخص ذي روح معذّبة، يختار مواجهة العالم بدل المصالحة معه والخضوع له.