لبنان نموذج اقتصادي تخطّاه الزمن

سمير خليل الضاهر اقتصادي - مهندس مستشار سابق في البنك الدولي

إن استعراض المعطيات والعوامل الرئيسية لاقتصاد #لبنان يقود إلى استنتاج مفاده أن النموذج الذي قد يكون خدم لبنان بشكل جيد لفترة من الزمن فقد الآن زخمَه، ولم يعد له القدرة لتلبية توقعات وحاجات مجتمع مستقر ومزدهر. وما من دليل على ذلك إلّا ضُعْف معدّلات النمو، وانتشار البطالة، واتساع فجوة الدخل بين شرائح المجتمع، وازدياد الفقر، وفقدان المواهب للهجرة، وتآكل البنى التحتية، والتدهور الطبيعي والبيئي على نطاق واسع.


لقد عانى أداء الاقتصاد عبر تاريخ لبنان المعاصر من الهشاشة وأثر الصراعات. ففي جيل ما بعد الاستقلال ما بين 1950 – 1974، بلغ معدل النمو الاقتصادي 7% سنوياً. وقد أدت الحرب الأهلية 1975- 1990 إلى خسائر لا تُحصى في رأس المال البشري نتيجة الوفاة والهجرة، لا سيما في صفوف الشباب، ودمار لا يمكن قياسه من حيث تآكل رأس المال المادي من مرافق البنى التحتية، ومساكن، ومنشآت إنتاجية، والتي لم تزل تداعياته قائمة. فوجب انتظار حلول عام 1998، أي بعد خمسة وعشرين عاماً من اندلاع الحرب، كي يعود الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى الذي كان عليه قبل الحرب – ما يمكن وصفه حرفياً "بالجيل الضائع" من المنظور الاقتصادي! 

 إن التحدّي الذي يواجه لبنان، ذا المناعة التي توصف بالأسطورية، يتمثل، قبل كل شيء، في محو مخلّفات الحرب الأهلية وتفادي مخاطر الصراعات الإقليمية الحالية. كما أن لبنان يحتاج إلى تحقيق معدّلات نمو مرتفعة ومستدامة تخلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية على نطاق كافٍ للحفاظ على السلم الأهلي، وتقليص أوجه عدم المساواة الاجتماعية والمناطقية، وتجنيب المِهَنيين الشباب مصير المنفى الحتمي. وهذه مهمة صعبة نظراً إلى الهيكل الحالي للاقتصاد اللبناني وقطاعاته الرئيسية، حيث إن الوظائف تتخلّف عن النمو الاقتصادي، إذ يظهر بعض البيانات أن زيادة الوظائف بمعدل 1% يتطلب معدّلات نمو في الناتج المحلي لا تَقُلّ عن 3.5%. 

إن خلق فرص العمل، وحده من شأنه أن يبطئ وتيرة الهجرة من لبنان، الذي تحوَّل إلى مشغلٍ لتصنيع المواهب والمهارات وتصديرها. ولن تأتي الوظائف الجيدة إلّا من الاستثمارات الإنتاجية والمبتكرة التي لن تتحقّق على المستوى المطلوب ــ 20 ألف فرصة عمل جديدة كل عام لتوظيف الخرّيجين الذين يحشدون سوق العمل - إلا بوجود اسواق ذات حجم كبير تتخطّى الحدود الضيقة للأراضي اللبنانية التي لا يزيد عددُ مواطنيها على الأربعة ملايين. ولا تنحصر الصادرات بالمنتوجات الزراعية والمُصَنَّعَة فحسب، إذ ينبغي لها أن تشمل، على نحو متزايد، الخدمات والمنتوجات "القائمة على المعرفة" في مجال تكنولوجيا المعلومات والهندسة والاستشارات والبحوث والتطوير والمحاسبة وتدقيق الحسابات والترجمة والنشر والإعلام والسياحة الطبية. والواقع، إن القدرة على تصدير السلع والخدمات تعتمد بشدة على القدرة التنافسية للاقتصاد.

أين لبنان، إذاً، من هذه التنافسية؟ في العام 2016، بلغت واردات لبنان 21 مليار دولار أميركي، مقارنة بأربعة مليارات دولار فقط للصادرات، مما رفع العجز التجاري إلى 17 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي. وفي تقييم البنك الدولي لعام 2018 ضمن "تقرير ممارسة أنشطة الأعمال"، الذي يقيس عوامل أساسية تؤثر في القدرة التنافسية، يحتل لبنان المرتبة 133 من أصل 190 دولة، وهو دون أداء المملكة العربية السعودية (مرتبة ٩٢) والأردن (مرتبة 103) كما هو دون المتوسط الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وليس مستغرباً أن تتعرض القدرة التنافسية لاقتصاد لبنان للضغوط على كل الجبهات نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، والبنى التحتية المتدهورة بما فيها قطاع تكنولوجيا المعلومات المتخلِّف، والتدهور البيئي الذي لا رجعة فيه، والإدارة العامة المُرْهَقة، والفساد المستشري. علاوة على ذلك، وفي غياب تقدّم كبير ومتواصل في الإنتاجية، فإن سعر الصرف الثابت وما يصحبه من تكاليف يَحِدُّ بشكل حثيث من مرونة النموذج الاقتصادي. 


أسعار الفائدة 

لقد فرضت أسعار الفائدة المرتفعة في لبنان ضغوطاً تصاعدية على اقتراض الشركات، وتالياً على تكاليف الإنتاج المحلية، مما أدّى إلى تآكل القدرة التنافسية. وفي وقت انخفضت فيه أسعار الفائدة العالمية إلى مستويات متدنّية تاريخياً، أدّى تردّي الوضع المالي في لبنان إلى زيادة تكلفة الائتمان، وذلك نتيجة الإنفاق الجامح للحكومات لأكثر من عقد من الزمان في غياب ضوابط الموازنة والرقابة البرلمانية. والواقع أن معدّلات الفوائد الأساسية (المرجعية) المرتفعة التي يتعيّن على المصارف التجارية اللبنانية أن تدفعها لاجتذاب التدفقات الخارجية الضرورية لتمويل عجز الخزينة والدين العام المتناميَين من دون هوادة، وكذلك لتمويل الاختلالات الهائلة للميزان التجاري، تتسرّب هذه الفوائد المرتفعة عبر الدورة الاقتصادية الكاملة. وما النتيجة إلّا انحسار الإقراض للاستثمارات الانتاجية الخاصة نتيجةً لما يلي: أولاً، ارتفاع تكلفة المال؛ وثانياً، تحويل الجزء الأكبر من الودائع المصرفية نحو أسواق سندات الخزينة، وأدوات البنك المركزي التي تُمَوِّل احتياطيات العملات الأجنبية الضرورية لدعم ثبات سعر الصرف الذي شكَّل مرساة السياسة النقدية قرابة ربع قرن. (ومن مصادر القلق بشأن المديونية، أن آفة الدين العام قد غُيِّبت عن شاشة الرادار لمجتمع اعتاد العيش مع هذا المرض المُنْهِك، علماً أن آثاره الكامنة سوف تستنزف الجسم في نهاية المطاف).

البنى التحتية 

لقد أدى شحُّ الاستثمارات الرأسمالية في البنى التحتية على مدى أربعة عقود إلى عجز في توفير المرافق العامة الأساسية، نتيجة النقص في طاقات المنشآت، وتردّي نوعية الخدمات وعدم تكافؤ فرص الحصول عليها. إن إمدادات الكهرباء غير الموثوق بها، والطرق المزدحمة، وعدم كفاية شبكات المياه والصرف الصحي، وأنظمة الاتصالات السلكية واللاسلكية المُكْلِفة وغير الفعّالة لها وقع كبير على إنتاجية جميع العملاء الاقتصاديين، ناهيك بتأثيرها في نوعية حياة المواطنين. كما أن فورة الأسعار العقارية - نتيجة الندرة من دون شك، ولكن أيضاً من جراء نظام ضريبي غير مُلائم - وتالياً ارتفاع تكاليف منشآت الانتاج والاعمال من مصانع ومكاتب - يرفع إلى حد كبير النفقات التأسيسية والتشغيلية للشركات. 

 الواقع المؤسساتي 

تُمَثِّل الإدارة المترهِّلة والفساد الراسخ رياحاً عاتية في وجه النظام الاقتصادي وفاعليته. إن نمط الأعمال التي تسود إدارة الاقتصاد وأسلوبها وسلوكها، تعوق الإصلاحات اللازمة لترسيخ ممارسات وأنظمة الحاكمية الجيدة في مؤسسات الدولة، التي تعاني في آن واحد من تخمة في عدد الموظفين وضعف في الأداء. إن فقدان المواهب نتيجة الهجرة يلقي بوزره على الاقتصاد بطريقة دراماتية ودائمة، ويُضعِف قدرة لبنان على تنمية اقتصاده المعرفي. فالحاجة ماسة لإصلاحات هيكلية ومالية وقانونية وتنظيمية جذرية للاحتفاظ في لبنان بالمنظومة المتنوعة من المواهب، وهي الطريقة الوحيدة لتحفيز الصناعات القائمة على المعرفة. وإن تأمّنت في لبنان الحوافز المناسبة، يمكن لهذه الصناعات المتنامية أن تستفيد من موارد مالية وافرة وموقع جغرافي متميز لتسويق إنتاجها عبر قاعدة واسعة من المستهلكين على المستوى الإقليمي وربما العالمي. هذا، بالطبع، إضافة إلى القطاعات التقليدية من مصرفية، وتجارية، وسياحية، والصناعات التحويلية المختارة حيث أرسى لبنان موقعَه، على الرغم من التحديات المتزايدة التي تواجهه. ومع ذلك، فإن السياسة العامة الحالية، على العكس من ذلك، تدفع بالمهارات اللبنانية إلى الاغتراب الذي يُولِّد الدورة الجهنمية من البطالة التي تقود إلى الهجرة التي تُغذّي تحويلات المغتربين المالية التي باتت ضرورية لتمويل العجز والدين العام.

وتبرز السياحة كمثال أليم في هذا الصدد، وهي قطاع رئيسي للدخل من العملات الأجنبية يمثل 20 في المئة من الاقتصاد الوطني. ففي ظل غياب سياسات داعمة، وعدم ملاءمة البنى التحتية، غدا لبنان في مؤخرة البلدان المنافسة كتركيا والأردن والمجر والهند، كوجهة محتملة للسياحة الطبية، وكان يمكن له أن يكون في الطليعة. كما تتقاعس الدولة بنفس القدر في عدم تهيئة الظروف التي تسمح للبنان بالاحتفاظ بمكانته المهيمنة في السياحة الترفيهية التقليدية. ويتبين ذلك بتغاضي الحكومة عن اتخاذ تدابير علاجية لمنع الاحتلال غير المشروع والاستخدام الخاص للأملاك العامة، والتدهور البيئي الذي لا رجعة فيه، وتآكل السواحل، وتلوُّث مصادر المياه العذبة، وانتشار المقالع والكسّارات التي تقضم الجبال وتشوه قممها المشجرة، ونثر القمامة في المروج والمجاري المائية. وما كان تأثير سياسة اللامبالاة هذه على السياحة البحرية، على سبيل المثال، سوى عزوف العديد من المواطنين عن السباحة على امتدادات شاسعة من الشاطئ اللبناني، ما حدَّ من توافد الزوّار الأجانب المُحتملين، ودَفع باللبنانيين أنفسهم نحو سلامة ونظافة المنتجعات الساحلية القبرصية والتركية واليونانية. والنتيجة أنه في عام 2016، سجّل قطاع السياحة عجزاً، حيث بلغ مجمل إنفاق السياح اللبنانيين في الخارج 5.5 مليارات دولار، مقابل عائدات سياحية بلغت 3.5 مليارات دولار فقط. أهذا هو الأداء المنتظر من قطاع طليعي في كسب النقد الأجنبي؟

نهايةً، لن يأتي الخلاص بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني سوى من النمو عبر استثمارات منتجة ومُبتكِرة في الأنشطة التنافسية التي تسمح للبنان توسيع صادراته وتوجد وظائف ذات قيمة مضافة عالية تُبقي على أرض الوطن جزءاً وافراً من المواهب والخبرات. ويتطلب نظام من هذا القبيل تغييراً جذرياً في السياسة العامة يُحَفِّز الإنتاجية المحلية ويُعزِّز القدرة التنافسية التي تسمح للبنان أن يولِّد في الأسواق الخارجية طلباً فعلياً على سِلَعِه وخدماته. ومن شأن هذه الإصلاحات أن تساعد لبنان أيضاً في تعزيز وتوسيع إنتاجه المحلي في أنشطة حيث تتمتع بميزة تفاضلية تُقلِّص من الواردات. هذا هو الطريق الذي قد يمكن من خلاله "للمعجزة اللبنانية" أن تدوم.