بطاركة آخر هذا الزمان

صدر في دمشق في 14 الجاري، بيان عن بطريركيات أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وللسريان الأرثوذكس وللروم الملكيين الكاثوليك، يحمل تواقيع كلٍّ من البطاركة يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ومار إغناطيوس أفرام الثاني كريم بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، ويوسف العبسي بطريرك أنطاكيا والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك.

البيان "يشجب ويستنكر" العدوان الثلاثي، الأميركي البريطاني الفرنسي على سوريا، لأنه "انتهاكٌ صريحٌ للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتّحدة، إذ إنّه اعتداءٌ على دولة ذات سيادة وعضوٍ في الأمم المتّحدة، من دون أيّ مبرّرٍ أو مسّوغ".

بريشة سعد يكن.

ماشي. موافق.

يحيّي البيان في الآن نفسه، "بطولة" الجيش الذي يدافع عن سوريا وشعبها، ويشيد بالدول الصديقة والحليفة. ويقول بالحرف: "إنّنا نحيّي الجيش العربي السوري على شجاعته وبطولاته وتضحياته، فهو الجيش الباسل والساهر على أمن سوريا، ونترحّم على شهدائه، ونحن كلّنا ثقة بأنّه لن ينثني أمام الاعتداءات الإرهابية الخارجية والداخلية وسوف يتابع حربه بكلّ بسالةٍ على الإرهاب حتّى يطهّر كلّ شبرٍ من الأراضي السورية، نثني على المواقف الشجاعة للدول الصديقة لسوريا وللشعب السوري"..

الجيش السوري على الرأس والعين، عندما يدافع عن سوريا وسيادتها، وشعبها، ضدّ كلّ عدوان، وخصوصاً العدوان الصهيوني (متى وأين؟!). لكن هل هو حقاً يفعل ذلك؟! وهل يا ترى، بقي ثمة شيءٌ في سوريا، يُدعى سوريا، ويُدعى الشعب السوري، على يد هذا "الجيش البطل"، وعلى يد نظامه البعثي الأسدي، وعلى أيدي الدول الصديقة والحليفة التي تدعم استمراره، من خلال تعميم هذا الدمار الأبوكاليبتي الكارثي المفجع الذي يطاول البشر والحجر، ويجعل "بلاد الشام" قاعاً صفصفاً؟!

لا أسهل من الحصول على البيان التاريخي البطريركي هذا، لقراءته، قراءةً كاملة، وللتمعن في معانيه ودلالاته.

طوال سنوات الموت السوري، ألم يجد هؤلاء البطاركة ما يستحق منهم دمعةً واحدة تُهرَق على شعبهم الذبيح؟

ترى، لماذا لم تحرّك أقلامهم وضمائرهم يوماً هذه الجرائم المنهجية التي تُرتَكب في حقّ هذا الشعب؟

ترى، لِمَ لم يرفعوا صلواتهم يوماً لراحة الأطفال الذين فتكت بهم كيميائيات النظام عشرات المرات... لـ"يبرّروا" صدور مثل هذا البيان الفريد من نوعه؟

أقول في صدد هذا البيان، وفي صدد موقّعيه، ما يأتي:

بأقلّ من ثلاثين فضةً خسيسة، يسلّم بيان بطاركة سوريا، سوريا والشعبَ السوري إلى الجلاّد، من دون أن يرفّ لموقّعيه جفنٌ، أو يرتجف لهم وجدان.

يا لهذا البيان. ويا – خصوصاً - لهؤلاء البطاركة!

البيان مهين لأنه يتذرّع بسوريا. بكرامتها. بسيادتها. بشرفها.

وهو مهين لأن موقِّعيه يعرفون تمام المعرفة أن نظام سيّدهم الأسدي البغيض، باع سوريا وشعبها من الشيطان، ولم يترك لهذه السوريا ولا لشعبها الكريم الأبيّ اليتيم، أيّ كرامة وسيادة وشرف، ولا حتى أيّ وجود.

أكثر من ذلك: هو خسيسٌ لأنه يبتزّ "الشعب المسيحي"، ويبتزّ "المسيحيين"، مثلما يبتزّ كلّ هذا الشعب السوري، في أعزّ ما يملك، وهو يساومه، ويرهّبه، ويرغّبه، من أجل أن يغرق أكثر في جحيم الجلاّد، ومعه، باعتباره ورقة مقايضة، وكبش محرقة في الداخل وفي الخارج على السواء.

بريشة فاتح المدرس.

عندما أسمّي "الشعب السوري"، فأنا لا أفرّق بين مسيحي ومسلم وكردي ودرزي، بين أكثري وأقلوي، بين صابئي وإيزيدي وفئات غير معلومة، بين علماني ومؤمن وغير مؤمن، بين مَن هو حيّ وميت، وبين مَن مسروق ومصادَر ومصلوب وتائه وشريد في جهات الأرض كلها.

فالبيان يتمرّغ في مستنقع الذلّ من دون أن يترك ماءً تُغسَل به الأيدي والوجوه.

فيا لعار هذا البيان، لأنه يصادر "السدّة" البطريركية، ويجعلها في بورصة المقايضات السياسية الشيطانية البغيضة.

أقول لموقِّعيه: ليس من حقّ أيّ بطريرك (وأيّ سلطة دينية مهما علا شأنها في الأرض و"السماء") أن ينوب "سياسياً" و"وطنياً" و"حزبياً" و"إيديولوجياً" و"فكرياً" و"ثقافياً" عن أيّ مسيحيّ، أو مؤمن، ولا تالياً عن مسيحيي سوريا.

أسأل البطاركة هؤلاء: بأيّ "سلطة دينية" أو "إلهية" يتذرّع هؤلاء الموقِّعون، لكي يجرّوا معهم "الشعب المسيحي" إلى هاوية النظام، ويجيّروه لصالحه، ولصالح الدول "الصديقة والحليفة"؟!

ليس لأحد، لا في الأرض ولا في السماء، أن يملك هذه "الولاية" على المسيحيين. لا في سوريا، ولا في خارج سوريا.

أفظع من ذلك، هذا البيان يبتزّ المسيح بذاته. ويصلبه، بأيدي موقِّعيه.

المسيح الذبيح القتيل نفسه، حرّر مريديه وتابعيه من أيّ وصاية وتابعية ومصادرة. ومن المنطقي جداً أن لا يرضى بهذا "البيان التجييري" الحزبي الإيديولوجي المسيّس.

بل أقول ما يأتي: البيان هذا، يستفيد منه زبانية النظام، وزبانية الحاكم الأبدي، وزبانية الدول الحليفة والصديقة لهذا النظام ولسيّده الأسدي البعثي البغيض، الذي يغتال سوريا كل يوم، ويغتال شعبها.

هذا البيان هو خيانةٌ للمسيح. وخيانةٌ لسوريا. وخيانة للسوريين وللمسيحيين منهم.

الذين قلوبهم (وبياناتهم) قبورٌ مكلّسة، مصيرهم نار جهنم.

akl.awit@annahar.com.lb