مَلامحُ الوجوه في ألبوم حروبها

نجم الدين خلف الله

في يوم قائظٍ من أيام آب 2006، كنتُ في الكشك، أبيع الجرائد أمام المَتحف الحربي. رأيت ملفًا أزرقَ يتدلى من محفظة عجوزٍ يتهادى. التقطته بسرعة، دون أن أبصرَ وجهَه. عدتُ إلى مكاني. فتحتُ صفحاتِه التي أرْبَت على العِشرين. تتضمن كل صفحة صورَ طلابٍ، وتحتها أسماؤهم. كُتب على الورقة الأولى:    

"قدمتُ إلى فرنسا بُعيْد تشرين الثاني 1956. دعيتُ إليها لمصاحبة وفدٍ عسكريٍّ للترجمة والتجسس. طلب مني مديري البقاء لجمع المعلومات، بعد اندلاع المُقاومة المسلحة. تحولت إلى أستاذٍ لأخفي مهمتي. بمحض صدفة سَخيفة، انْتُدبتُ في معهد العلوم السياسية. وهذه صورُ طُلابي. رتبتها حسب تعاقب السنوات الستة والعشرين التي قضيتها جاسوسًا بهذا المعهد. وراء هذه الملامح، تَختفي قِصص فرح وخيبة، وداعةٍ وغبار حروبٍ، مدارات تألقٍ وسوانح فشل. وبعد مرور هذه السنين، لم أعد أدري مَن ارتقى منهم إلى عَلياء المجتمع، ومن تهاوى إلى متاهات النسيان. كانوا جميعًا يصطفون أمامي، بعيونهم الزّرق وبشراتهم البيض، يستمعون إلى شروحي. أوهِمُهم أني أحلل مسار الثقافة العربية أثناء حروبها ونكساتها. سأحتفظ بهذه الصور لأنها دليلي الوحيد على أداء مهمتي. أغادر اليوم. عِفتُ قذارة التلصص. حزيران 1982".

  قلبتُ هذه الصفحة، فتراءت لي بقية الأوراق وما فيما من صور وأسماء. رُحت أتخيل كيف تولى بعضهم أعلى حقائب الحكومة، فصار يخطب في محافل السياسة ويناقش قضاياها، بناءً على شروحات جاسوس. وكيف صار بعضهم الآخر من كُتَّابِ الصحافة ينتقد ما يقوله زملاؤه القدامى بعد أن انقلبوا ساسَةً. التحق آخرون بمراكز البحث، فحرروا مذكراتٍ بناء على نفس الشروح. لم يَستخدمْ خلاصاتِها لا رفاقُهم الساسةُ ولا الصحافيون. ربما غادرت البقيةُ مدارج المعهد لتقتنص فرص بَيع العقارات؟ هل اندثرت مطامح غالبيتهم، فَأذعنت إلى وداعات الأسرة أمام المدفأة؟ تلاعب الأطفال وتحثهم على الالتحاق بمقاعد المعهد الذي اغتيلت فيه أحلامهم...

 حَدَّقتُ في الوجوه المنبثة في سائر الصفحات. جهدت في استرجاع نَبرات أصحابها حين يَسألون جاسوسًا، وهم يخالونه خبيرًا في شؤون الشرق الأوسط. لا شك أنهم من ذوي اليسار. بشراتهم ناعمة. يبرق من عيونهم ذكاءٌ خارقٌ. خانهم هذا الذكاء فما ميَّزوا بين جاسوس وخبير. سمعت أن إدارة المعهد قررت، في بداية السبعينات، التنويعَ في أصول الطلاب وأوساطهم الاجتماعية. هذه صورة مدير المعهد وتحتها: وُجد المدير ميتًا في غرفة فندقٍ بنيويورك. بجانبه أقراص مخدرة. لم يُعرف الجاني بعدُ. هل كان الحادث انتحارًا أم جريمة قتل؟ صار المعهد مثل طاحونة: ترحي من يَمر عبر حَجْرَتَيْها.

 استَعدتُ أسماءَ الطلاب الممهورة بخط اليد تحت كل صورةٍ. من بينها أسماء وزراء مشهورين. نظم أحدهم معرضًا عن المُستعمَرَات السابقة. زرتُ أروقتَه وتمليت لوحات وجوه المُستَعْمَرين السمراء وتجاعيدها الناتئة. نظم الوزير معرضه بعد أن تَخصص في التقاط حركات الحَواجب والأهداب. مارس هوايته هذه لذر الرماد في العيون. أظنه من أعتى أعضاء اللوبي...

فجأةً، تراءت لي صورتي تتوسط قائمةَ طلاب فَوج 1970، مع أنني لم أنتسب يومًا إلى هذا المعهد. فقد قضيت نصف حياتي في هذا الكشك، أبيع الجرائد للمارة بعد سنوات في الخدمة العسكرية. كل ما أذكره أنَّ ابن عمي، وهو ندِّي ويحمل نفس اسمي، مر بهذا المعهد. هل قدَّم صورتي عوضًا عن صورته؟ كان أسمر البَشرة، في حين يميل لوني إلى البياض. لعله أراد مغالطة الإدارة بهذه الصورة التي أرفقَها مَلفه. هل تورطت الإدارة في قبوله بناءً على الوثائق، ولم يعد بإمكانها التراجع؟ كيف حصل على صورتي القديمة التي أخذت لي في حزيران 1967؟ أثَرُ الحرب بادٍ في عيوني. لا يزال رعْبُها يرقص في نَظرتي. التُقطت لي عندما كنت عسكريًا بجيش عربيٍّ. لفحُ الصحراء يحرقُ سِحنتي. أعدت قراءة اسمي (اسم ابن عمي) تحت صورتي. ربما تمنيت التخرج من هذا المعهد عوض بيع الجرائد وسرقة الملفات من المحفظات لتخيل قصص أصحابها.

آخرُ الصفحات، رسالة وقعها طالبٌ في تشرين الأول 1973:  

 "أستاذي، أشكركم على درس تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي. فهمتُ بفضلها قداسة المكان ولَطافات الرمز. ترتسم في اللغات السامية خوارقُ الهِمَم. ولكن تتطاير من شروحك روائح الغرف السوداء".

 اشتدت الحرارة في هذا اليوم من شهر آب 2006. أصابني دوارٌ من متاهة الصور والأسماء والسنوات. عِفتُ مشاهدَ الدماء تَخضِب أرض المَصيف. ألقيت المَلف وما احتوى أرضًا. لن أسرق من جديد مثل هذه الملفات- المتاهة. خِلتها مجرد حافظة بورتريهات، كتلك التي أجمعها من المعارض والأسواق لأغوص في خبايا أصحابها. وقد أسرق بعضها من الحقائب، حين تغلبني شهوة خَلق المصائر. كدتُ أن ألاحق العجوزَ لأردَّ له مَلفه. هل هو ابنَ عمِّي؟