يوم اعتلى جبران تويني منصة البرلمان... بصمة سيادية وسؤال عن المقابر

حين اعتلى النائب الشهيد جبران تويني منصة مجلس النواب، خرق جموداً ساد لأعوام. جمود فرضته اعوام الوصاية السورية يومها و"تعليب" عدد من النواب. كان عام 2005 المفترق. خرج الجيش السوري في نيسان 2005، وبعد شهر تبدلّت صورة المجلس. 

اما جبران تويني، فلم تبدّله نيابة. حمل الصوت نفسه، حتى تلك النبرة الشجاعة، الجريئة كانت ذاتها. هو لم يميّز بين صفحات الجريدة ومقعد نائب. ولايته النيابية كانت قصيرة، لكنها نوعية، مليئة بالمواقف والوقفات. غالباً ما كان يكتب مقالاً ثم يستتبعه بموقف ناري من المجلس، أو بسؤال لا يتوانى عن تحويله استجواباً. هكذا هو جبران تويني، حتى النهاية يسير، وحتى الرمق الاخير، يبقى يصرّ على قول الحقيقة. من داخل القاعة العامة لمجلس النواب، لم يتوان عن المطالبة باستجواب رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود، "لأنه لم يعمل على نبش الحقيقة في ملف رفات العسكريين في ملعب اليرزة ، عندما كان قائداً للجيش، ولم يحافظ على كرامة البدلة العسكرية اللبنانية".

كان ذلك في 6 كانون الاول 2005. وكانت تلك الجلسة آخر جلسة نيابية يشارك فيها تويني قبل اسبوع من استشهاده. أهي صدفة، أم مفارقة أن يكتب تويني آخر مقالة له عن "المقابر الجماعية"، بعنوان: "نعم المقابر الجماعية... جريمة ضد الانسانية"، وأن يتحدث داخل البرلمان عن مصير المعتقلين والموقوفين ونبش رفات الشهداء. انه العمل التكاملي بين الصحافة والنيابة الذي اتقنه تويني جيداً.

هي نحو ستة اشهر مارس خلالها تويني عمله كنائب، وهي جلسات سبع عقدها المجلس خلال تلك الفترة، لم يغب عن واحدة منها. من الجلسات العامة الاشتراعية الى جلسة الأسئلة والأجوبة، مروراً بجلسة منح حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الثقة. بين مواقف نارية، وأسئلة جرئية لامست المحرّمات، الى مداخلات سمّت الامور بأسمائها، شكّل تويني - النائب بصمة، ودخل محاضر مجلس النواب التاريخية.

كان يجلس في المقاعد الاولى ، حتى لا تفوته شائبة. كان يتقن تحضير الملفات، وغالباً ما يدخل ساحة النجمة، ويداه "تكتنزان" ملفات سميكة. في لجان نيابية ثلاث، انتخب تويني. في التربية، الاعلام، وحقوق الانسان. لم يكن هذا الاختيار عشوائيا، بل هي محاور العمل التي يعشقها جبران. هو المدافع الاول عن الاعلام وحرية الصحافيين وحامل لواء حقوق الانسان، والمهتم الاول بالشباب وهمومهم وتربيتهم. مرة جديدة، انه فن التكامل.

نائب شاب بعمر الـ47 عاماً، حوّل قاعات المجلس ملتهبة، حامية، لا كما الكثير من الاحيان، باردة، فارغة. في جلسة الاسئلة الشهيرة، حمل تويني معه تحقيقاً صحافياً كان نشر في " النهار" ويكشف عن رفات عسكريين مدفونين في اليرزة. من داخل المجلس، وقف ليسأل عن "رفات في ملعب وزارة الدفاع، وعن مقابر المحيط الامني لمقر قيادة جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية التي كانت في لبنان بين اعوام 1976 و2000، مطالباً بالكشف عن مقبرتين جماعيتين "لم تكشفا بعد في جبل تربل شمالاً وتلة شرحبيل جنوباً".

لم يتوان تويني عن رفض ما ساقه بعض النواب حين ربطوا وجود بقايا الجثث بما "سمّي الحرب الاهلية اللبنانية". تابع اسئلته بالقول: "كلامي ليس على ما فعلته الميليشيات انما على مقبرة لها علاقة بالقوات العربية السورية، التي كان يجب أن تكون قوة لحفظ السلام".

هكذا دوماً، يكره تحوير الموضوع. ولأن جواب وزير الدفاع بالوكالة آنذاك يعقوب الصراف لم يقنعه، قرّر تحويل سؤاله استجواباً.

كان هذا النشاط الاخير من داخل المجلس. لم يتسنّ له اكمال مهمته!

جلسة اولى ونظام الوصاية

بعد انتخابات ايار 2005، افتتح تويني نشاطه المجلسي خلال الجلسة الاولى في 28 حزيران. ترك الجلسة تسير، رافضاً التجديد لولاية رابعة للرئيس نبيه بري، لكنه عرف كيف يوجه رسالته، كالمعتاد. في النهاية، وقف ليطلب من بري ان "يهنىء مجلس النواب الذي انتخب للمرة الاولى بعد جلاء نظام الوصاية عنه".

هو جبران تويني. في "النهار" كما في المجلس. بعد اقل من شهر: في 6 تموز، برز توقيعه على عريضة نيابية وجهت الى لحود، تطالبه بفتح عقد استثنائي للمجلس. كان يريد ان ينطلق قطار التشريع في "زمن التحرير". في اليوم نفسه، وبعيد الجلسة، دعا تويني النواب الى "اقرار قانون العفو عن الدكتور سمير جعجع".

ايام، ويقرّ القانون. يخرج جعجع من السجن في 26 تموز 2005.

لم ينس تعهداً ولم يخلف وعداً. في 28 تموز، سأل تويني عن "التمثيل الديبلوماسي مع سوريا". كانت تلك الجلسة لمنح الثقة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. انطلق متحدثاً عن "وجوب تأمين العلاقة الديبلوماسية مع سوريا، وعن ترسيم الحدود معها"، قائلاً: "لبنان لا يكيل المؤامرة ضد سوريا ولا ضد نظامها".

في ختام مداخلته، منح الثقة، وربطها بعبارة: "نعطي الثقة لنقول ان هذا البلد ليس قاصراً، ويستحق ان يعيش. هو ليس كذبة".

من على مقاعد النواب، تمنى على الحكومة ان تتقدم الى المجلس بمشروع "تقليص ولايته الى عامين، ربما لطمأنة الناس الى ان لا احد يريد التمسك بكرسيه"، وتمنى ايضاً "لو تعيد الحكومة النظر في رواتب النواب السابقين". اي نائب هذا يجرؤ على المطالبة بتقصير ولاية "نعميه"؟

يومها، لم يرق الكلام للنائب نقولا فتوش. ردّ: "هل ننشر غسيلنا؟ هذه قضايا النواب". سريعاً، أجابه تويني: "اعتقد أنه مسموح لنا بالتكلم في المجلس على كل شيء، وايضاً اتمنى ان يتنازل النواب عن الزفت الى المجالس البلدية". 

مقاومة وابادة جماعية

خلال اشهر معدودة، لم يبخل تويني بالمواضيع -المحاور . عن المقاومة تحدث. قال: "انا معها، كما وردت في البيان الوزاري، يجب ان تكون ضد اسرائيل، وكان يجب اضافة وغيرها ممن قد تكون له اطماع في لبنان، حرصاً على سيادة لبنان وحريته واستقلاله".

احياناً كثيرة، كان يلزم المجلس الصمت بعد كلام تويني. ربما هو لم يعتد يومها هذه النبرة. في 16 آب 2005 ، قال: " اليوم، سنصوّت على آخر ما قامت به الوصاية والاحتلال السوريان في حق الاعلام. نحن نصوّت اليوم والاعلاميون اللبنانيون يتعرّضون لحملة من الاعلام الرسمي السوري، أتمنى ان يتخذ المجلس موقفا. ان اتهام الصحافيين اللبنانيين بأنهم عملاء للخارج مرفوض".

12 – 12 – 2005، وهو يهمّ بالخروج من منزله في بيت مري الى مبنى "النهار"، كان داخل حقيبته، آخر اقتراح قانون عمل عليه. كان الاقتراح يجيز للحكومة الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة اشخاص وليس دول، اي الذين ارتكبوا أشدّ الجرائم خطورة، كالابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب والعدوان". لم يكتب للاقتراح ان يسجل في دوائر المجلس... لغة التفجير اسرع... ولكن أي قدر هذا أن يحمل الشهيد بين يديه قانوناً يطالب بمحاكمة من يقتل ويبيد ويسكت صوت الاحرار!

manal.chaaya@annahar.com.lb

Twitter:@Mchaaya