ذاكرة طرابلس السينمائية

محمد الحجيري

قبل أيام توفى ابرهيم الهندي (1942 – 2013) الطرابلسي، الذي اشتهر بهواية جمع ملصقات السينما العربية والأجنبية، قطع الأنتيكا، العملات القديمة، والطوابع. أخذ الهندي هوايته عن الآثاري صليبا السودا المتوفى في أوائل التسعينات من القرن العشرين. بلغ عدد الملصقات التي جمعها نحو 600 ملصق، أصدر بعضها في كتاب عنوانه "طرابلس وسينما عبد الحليم" يضم ملصقات أفلام العندليب الأسمر التي عُرضت في طرابلس، وكان يطمح لتقديم كتاب يتضمن ملصقات أفلام الفنان الراحل فريد الأطرش، لكن المشروع لم يكتمل لأن المجموعة ينقصها ملصقان أو ثلاثة. إلى جانب ذلك اقتصر الاهتمام بملصقات الهندي على معرض في جامعة البلمند وبعض المقالات والشهادات في الصحف والمطبوعات.


مع الأيام ستغدو ملصقات الهندي ثروة ثقافية يتبارى منظّمو المهرجانات والمواسم على عرضها في المناسبات والتظاهرات الثقافية والسينمائية. فتلك الملصقات القديمة التي غابت عن واجهات دور السينما اليوم، وغابت الصالات نفسها، باتت أشبه بأقنعة حنين إلى زمن غابر، حاملةً في طياتها إشارات إلى تحولات طرأت على عالم الميديا والصورة والرسم والمجتمع وصالات السينما، بل تدل على التحول في السينما نفسها، بعد مرحلة التصوير بطريقة تسمى "ثلاثية البعد"، وقبلها موجة السينما المنزلية التي كسرت هالة الصالة وعتمتها وطقوسها.


الملصقات وأصداؤها
صنع ابرهيم الهندي سيرته الخاصة من قصة حبّه للملصقات السينمائية القديمة. وهو مثل الناشر عبودي أبو جودة الذي جمع ألوف الملصقات في بيروت، وصار لكل ملصق في ذاكرته حكايته الخاصة، المتصلة بصالات السينما التي خصّها محمد سويد بعد إقفالها بكتاب "يا فؤادي". يروي الهندي أن بداية جمعه الملصقات تعود إلى عام 1975، خوفاً عليها من التلف أو الضياع. كان يجول في الصالات الطرابلسية للحصول على الملصقات، إما مجانا وإما بدفعه ثمنها للقبض على لحظات من الزمن الجميل. هي ملصقات سينمائية قديمة كانت تعلّق في خمسينات القرن الماضي وستيناته وسبعيناته على مداخل دور السينما. الملصق هو "أول أداة لنشوء علاقة بين المشاهد والفيلم، وهو بطاقة دخول المشاهد الى الفيلم قبل شبّاك التذاكر والصالة"، على ما ذكر ابرهيم الهندي، تقديماً لأحد معارضه. من الملصقات التي جمعها وشاهد الجمهور بعضها في المعارض، ملصق لنجوى فؤاد ويحيى شاهين يؤديان مشهد لحظة عاطفية من فيلم "امرأة وشيطان"، وآخر لفيلم "صراع مع الموت" من إخراج ابرهيم عمارة. هناك هند رستم المثيرة والفاتنة في ملصق فيلم "باب الحديد" ليوسف شاهين. هنالك أيضاً نور الشريف وشمس البارودي في ملصق "المتعة والعذاب"، الذي يأخذ من يراه اليوم في رحلة مع شريط الذكريات، مستعيداً محطات سيرة شمس البارودي السينمائية، ابنة طرابلس، في تحولها من مشاهد العري والإغراء الى التحجب والتستر.
هناك أيضاً ملصقات للأفلام الترفيهية مثل سلسلة "بينك بانتر" لبلايك ادوردز، تليها افلام جيمس بوند العميل السري 007، خادم صاحبة الجلالة، وفيلم "ذهب مع الريح" مع صورة كلارك غيبل وفيفيان لي. ثم جولي اندروز وهي تطلق أغنية "صوت الموسيقى"، و"إيرما الجميلة"، الغانية التي أوقعت الشرطي في غرامها، و"لوليتا" الفيلم المأخوذ عن رواية لفلاديمير نابوكوف، لمخرجه ستانلي كوبريك. هذا غيض من فيض مئات الملصقات النادرة التي تؤرخ لعروض السينما وصالاتها في طرابلس.


عبد الحليم
حفظ الهندي ملصقات أفلام عبد الحليم حافظ التي عُرضت في مدينته منذ العام 1955 مع الفيلم الأول للعندليب الأسمر "لحن الوفاء"، حتى 1969 تاريخ عرض فيلم "أبي فوق الشجرة" الذي تضمّن مشاهد لقبلات كثيرة ساخنة وخضع للرقابة، بينهما فيلم "أيامنا الحلوة" من بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وعبد الحليم.
يلاحظ ان ملصق هذا الفيلم في نسختين، الأولى للمخرج حلمي حليم، والثانية من اخراج عاطف سالم. في الثانية تبدّل تصميم الملصق، فبرز فيه عبد الحليم اكثر من فاتن حمامة وعمر الشريف.
ثمة ملصقان نادران في حجم أصغر كانا يلصقان على الجدران في شوارع طرابلس، وهناك ملصقات لأفلام "ايام وليالي"، "ليالي الحب"، "موعد مع الغرام"، "دليلة"، "بنات اليوم"، "فتى أحلامي"، "الوسادة الخالية"، "شارع الحب، "حكاية حب"، "البنات والصيف"، "يوم من عمري"، "الخطايا"، و"معبودة الجماهير". في هذه الأفلام عبد الحليم حافظ هو النجم المتصدر أكثر من النجمات وقبل أي شيء آخر. في ذلك إشارة إلى أنه كان نجم شبّاك التذاكر، أيام كانت أهميته الفنية والغنائية تتخطى نوعية الأفلام التي يقدمها إلى جانب ممثلات كنَّ كأنهن مجرد زينة لجمهور أصابه بعض الجنون في عبادة عبد الحليم.
يقول الناقد رفيق الصبان عن عبد الحليم حافظ الممثل إنه كان يتمتع بعفوية وبساطة في الأداء التمثيلي، إضافة الى شكله الخارجي الذي يشبه في ملامحه الشبان المصريين والعرب، ما أشعر جمهوره بالتعاطف معه، برغم من عدم تمتعه بوسامة رشدي أباظة. فأفلام عبد الحليم حافظ كان هدفها الرئيسي خدمة المطرب لا الممثل، لذا تفلت من الرأي السينمائي النقدي.
يعرض الهندي ملصق كلّ فيلم وحكايته وبطاقته الفنّية تمثيلاً وإخراجاً وإنتاجاً وسوى ذلك من معلومات. يضيف عناوين أغاني الفيلم وكلماتها، مصحّحاً ومزيلاً الإلتباس عن بعض الكلمات التي سرت خطأ شائعاً على ألسنة الناس.
لم يكتب الهندي علاقته بهوايته في جمع الملصقات التي تؤرخ للزمن الطرابلسي الجميل. هي ورقة من أوراق طرابلس الجميلة قبل أن تحاصرها الإيديولوجيات البعثية والاسلامية، وتحول عتمات صالاتها البهيجة وأنوار شاشاتها محاور ومتاريس حربية مدمرة.


مرآة للتحولات
كان الملصق الملون بألوان قليلة حادة، برّاقة وجذابة، يروّج للأفلام السينمائية العربية والأجنبية، ويلعب دور صلة الوصل الأولى بين الفيلم والمشاهد قبل دخوله إلى الصالة. أحياناً يكون لرسّام الملصق قدرته على خداع المشاهد من خلال طريقته في إبراز مشهد ساحر أو مغرٍ، ككل إعلان تجاري يعتمد على الصورة والكلمة معاً، كلّ منهما يحاول تفسير الآخر. لهذا الفن فرسانه من الرسّامين.
وقد اشتهر عدد من رسّامي الملصقات مثل مصطفى حسين واليوناني فاسيليو وحسن مظهر أو جسور وديمتري، بعدما كان الأوروبيون أوّل من صمّم ملصقات الأفلام المصريّة، وكذلك الأرمن في مصر. هؤلاء جميعاً أشبه بجنود يعملون في الظل، يرسمون النجوم، ونادراً ما نرى صورهم أو نعرفهم، شأنهم في هذا شأن رسّامي الغرافيتي اليوم. في الإطار، يوقّعون أعمالهم ولا يقيمون معارض لرسوماتهم التي تنتمي إلى فن الـ"بوب آرت" والـ"كيتش"، إذا جاز التعبير. ما يلاحظ في الملصقات القديمة هو غلبة تقنية الرسم والتلوين اليدوي، على معظمها، من دون تدخل الصورة الفوتوغرافية إلا في مرحلة متأخرة.
اليوم، مع رواج ثقافة الغرافيك ديزاين، ماتت الملصقات اليدوية وباتت أقرب إلى الكائنات المتحفية، وماتت الصالة القديمة لتبرز صالات المجمع التجاري، وربما ماتت السينما التقليدية لتظهر الأفلام الشخصية والـ"يوتيوب". أما ملصقات ابرهيم الهندي فشيء من ذاكرة محفوظة، ربما يجب توثيقها قبل أن تذهب نحو التلاشي.