عن الحواجز على طريق السويداء

نجاة عبد الصمد - طبيبة وكاتبة سورية

أقول لزوجي حين صرنا أمام الباص: لا يسافر إلى العاصمة هذه الأيام إلا الطلاب الفدائيون أو المرضى اليائسون أو الموظفون الخائفون على لقمة العيش. فيضيف: بقيت فئةٌ أخيرة؛ المجانين أمثالك المسافرون شوقاً إلى الشام.


تبعد دمشق (الساخنة) عن السويداء الآمنة (الباردة) مسافة 100 كم. كنا قبل الحرب نقطعها بسياراتنا أو بالبولمان في غضون ساعة. تطاولت الساعة ساعات على الحواجز: حواجز للجيش ولجيش الدفاع الوطني وحواجز للجان الشعبية. كلّ حاجزٍ منها سلطةٌ عصماء لا تعترف بشرعية السابقة أو اللاحقة. تدقيقٌ في الهويات الشخصية وتفتيش الحقائب وجزادين اليد، قبل أن يُؤذن للسائق بمتابعة السير.
تفيق عبارة زوجي بعد الحاجز الرابع أو الخامس، حين انبثق جنديّان فجأةً كأنما من بطن الأرض، وصوّبا رشاشيهما نحو البولمان؛ نحونا، نحن المسافرين المذعورين أصلاً قبل رؤيتهما. خلفهما جنديان آخران يهدّدان بيديهما السائق كي يتوقف. قد يبدو الفعل مبرّراً لو أننا في منطقة اشتباك، أو لو كنا في منطقةٍ "محرّرة" يحكمها ظلاميّو "داعش" أو "جبهة النصرة" وأخواتهنّ الحديثات العهد في سوريا. لكننا لا نزال على حدود السويداء، في المنطقة التي تتبع كليّاً للنظام. مَن هذا الذي يجرؤ على استهدافنا هنا في مناطقنا الآمنة؟! انقضت أكثر من دقيقة وهما يصوّبان ولا يطلقان، لتظهر بعدها سيارة الضابط المفيّمة، وتعبر من يسار الأوتوستراد إلى يمينه!
كان الطريق ساعتذاك، كما هي غالباً ـشبه خالية. حركة السير ضعيفةٌ حدّ الوحشة. لم يكن على الضابط أن ينتظر أكثر من خمس ثوانٍ ريثما يمرّ الباص، وتعبر سيارته بعده بسلام. لماذا يرعبنا برشاشات جنوده ما دام وجوده هنا لحفظ أمننا وسلامتنا نحن الأقلية المدلَّلة؟!
لكنّ الشعارات المكتوبة بحبرٍ رديء وبخطٍّ أكثر رداءةً على هياكل الحواجز قد تجيب. نقرأ على كل حاجزٍ وعدهم الصادق: "الأسد أو نحرق البلد"! تطالعنا أيضاً صورة الرئيس البهيّة، مكتوبٌ حولها: "منحبك" و"كلنا إلك". ثمة صورةٌ أخرى له أكبر حجماً وأبهةً، تحتها عبارة: "صغيرة يا كبير". نقرأ أيضاً: "أنت بأمان. الجيش السوريّ هنا"، أو: "نسهر على أمانكم". هذا شعارٌ لم أفهمه: "سوريا هي رجال الصواريخ"! على حاجزٍ صغير ومتواضع كان مكتوباً: "الوطن عرض البني آدم"! يا الله كم أحببتها هذه الأخيرة!
على الحاجز التالي توقفنا أكثر من ربع ساعة. الضابط ذو النجمتين على الكتف أوقف سيارته الحكومية في عرض الطريق وسدّ بها منفذ الخطّ الشعبيّ السيئ الحظ دوماً، والخط العسكري السعيد عادةً. اختار هذا الموقع ليتفقّد حقيبته الكبيرة داخل صندوق سيارته. كان يتأمل ثيابه في الحقيبة، ويطويها بأناة كأنه في غرفة نومه يستدعي من ذاكرته حكايةً مؤثّرة لهذا القميص الأبيض أو ذاك الجورب الأخضر، ونحن من خلف سائقنا نتأمله مشدوهين بأناقته، ورقّة قلبه.
على الحاجز الأخير توقفت أمامنا سيارةٌ فارهة ترجّل منها مواطن سوريّ سمين وفخم من حماتنا في اللجان الشعبية، بزيٍّ أسود، ولحية وشاربين كبيرين، ونظارة شمسية سوداء تصون عينيه الوطنيتين الثمينتين، ومسدس كبير يطلّ نصفه من فوق زناره. هبّ الضابط على الحاجز لملاقاته. تعانقا وتبادلا شوقهما وعواطفهما النبيلة، وتداولا بالتأكيد طويلاً معضلات البلاد، ونحن في الباص نرقبهما، ونخفي إعجابنا بالإتيكيت الوطني.
لكن كيف تبدو هذه الحواجز؟ باستثناء شجيرات الدفلى القزمة والعطشانة والممرّغة بالرمل على رصيف الطريق، هنا على مدّ النظر فنُّ تدوير مخلّفات الطبيعة لصنع حيطان وسقف: سواتر رملية اهترأت وسال رملها تحت الشمس، دواليب كاوتشوك مرقّعة، ألواح تنك صدئ من بقايا سيارات تالفة أو تنك زيت أو ألواح صفيح من البنايات المهدمة المرحّلة. كسرات بلوك، أحجار كبيرة وصغيرة يتسلّى هؤلاء الجنود المرميّون في العراء بتحريكها في أوقات الضجر، يرصفونها طولاً أو عرضاً، أو متعرّجةً كما في مدارس تعليم السياقة، وقد ينقلون الحاجز 100 متر إلى الأمام أو الخلف أو يزيدون عرض الخط العسكريّ لتمر منه الصبايا الحلوات فيكسب الجنود بعبورهن يوم عيشٍ جديدا. معظمهم لم يزوروا أهلهم منذ سنة. معظمهم كان يجب أن يتسرّحوا من خدمة العلم منذ أكثر من سنة، معظمهم لم يأكل طعاماً يليق بجنديّ، أو لم يشبع يوماً من طعامٍ رديء منذ أكثر من سنة، ولم يستحمّ بماء دافئ منذ دهر. أعمارهم لم تتجاوز العشرين، كان عليهم أن يكونوا في أولى سنوات الجامعة، يدرسون ويواعدون البنات ويشرقون. لكنهم كانوا يفتشوننا منطفئين. كلهم طلبوا ماءً للشرب. واعتذر السائق بأدب منهم جميعاً. تلك هي التعليمات الحديثة على ما يبدو، لأن سقاية العطشان لم تفارق وجدان الآدميين قبل هذه الأيام التي خرّبت النفوس.
اقترب أحدهم من شبّاك السائق: بترجّاك بطريق الرجعة تجيبلي قنينة ميّ باردة من السويداء حصراً.
"في سفرتي القادمة سأحمل معي ثماني قناني ماء بارد، على عدد الحواجز المرشوشة على طريق الشام".