هذا التريّث خرّب لبنان فلا تتريّثوا!

الكلمة الوحيدة التي لفتتني يوم أمس، في مناسبة عيد الاستقلال، وعودة رئيس الحكومة (المستقيل من الرياض) إلى لبنان، هي كلمة "التريّث".

جاء هذا التعبير في تصريح للحريري بعد لقائه رئيس الجمهورية الذي تمنّى عليه أن يجمّد استقالته، وأن يفرمل موقّتاً مفاعيلها الدستورية والقانونية، ريثما يكون أجرى اتصالاته مع الأطراف المعنيين، في الداخل والخارج، توصلاً إلى إزالة الأسباب التي أملت عليه (الحريري) الاستقالة.

اللافت في المسألة، أيضاً وخصوصاً، أن الحريري كان عند حسن ظنّ الرئيس، فتلقّف التمنّي (دغري، وبدون تمنّع)، ونزل عند الرغبة الرئاسية، كأنه ليس هو الذي أعلن استقالته المدوية، الغريبة العجيبة تلك، ولا هو الذي أجرى المقابلة التلفزيونية، ولا هو الذي تلاقى الشرق والغرب، والعرب والعجم، بحثاً عن الأسباب التي دعته إلى الاستقالة، بهدف تذليلها، بالتزامن مع تعظيم شأنه، والإشادة به، والحرص على بقائه في السدة الحكومية.

حلو الغرام. ولكن مش ها القدّ!

ما لنا ولأجواء السخرية المرّة، ومناخات الاستهزاء والهجاء، حيال ما آلت إليه الاستقالة.

فلنتكلم جدّياً.

أتمنّى على القرّاء الكرام، أن يعوا خصوصاً، وبالتحديد، تاريخية كلمة "التريّث"، التي عانى منها لبنان واللبنانيون، جلجلةً وطنيةً مستديمةً، أين منها جلجلة عيسى بن مريم، عليه السلام، التي توثّقها الكنيسة بأربع عشرة مرحلةً من العذاب، فقط لا غير، وصولاً إلى الصلب.

أذكّر بالتوثيق التاريخي للكلمة، لأني متوجّس من هذا "التريّث" الجديد الذي تفتقت عنه النباهة السياسية اللبنانية الراهنة، يوم أمس، وأخشى ما أخشاه أنه قد يعيد الأزمة، أزمة الاستقالة ومسبباتها، إلى الدائرة التاريخية المغلقة.

مَن يُحسن العدّ، فليؤرّخ للتريّث الوطني المفجع، ولمراحله، ومحطاته، وعذاباته، ومهاناته، وإذلالاته، منذ 74 عاماً، وهو عمر الاستقلال اللبناني.

ومَن لا يُحسِن العدّ بدقة، أو من لا يتذكّر الوقائع الكارثية جيداً، وبالتفاصيل، فليتوقف فقط عند بعض أسوأ الفجائع الوطنية التي عاشها في حياته هذه، مذعوراً، صابراً، هارباً، مختبئاً، يائساً، لاجئاً، متريّثاً عن الإقدام على الانتحار أو الكفر بلبنان واللبنانيين، منتظراً الفَرَج الوهمي الذي لا يأتي.

وهو الفَرَج الذي لن يأتي على أيدي هؤلاء.

فهل يجوز بعد الذي عشناه، وكابدناه، أن يُطلَب من اللبنانيين التريّث؟

أقصد المواطنين العاديين، المعذّبين، واليائسين، والتائهين، والحالمين، والأوادم. هؤلاء لماذا يجب أن يتريّثوا؟ وإكراماً لماذا؟ ولمَن؟

كمّن يطلب من المرء الذي يتريّث مرةً، ويُلدَغ بسبب هذا التريّث، أن يتغاضى ليُلدَغ مرتين وثلاث مرات وعشراً وعشرين، ومئة مرة، ويظلّ "يتريّث" ويعاود الكرّة، كأنه لم يتريّث قط، ولم يُلدَغ ولا مرّة بسمّ هذا التريّث!

هذا من جهة الناس، المواطنين. أما من جهة المسؤولين السياسيين، ففي مقدور رئيس الجمهورية أن يطلب من رئيس الحكومة المستقيل، ومن غيره، التريّث، ما طاب له أن يطلب.

وفي مقدور رئيس الحكومة المستقيل هذا، وغيره، أن يتريّث، ما طاب له التريّث.

وفي مقدور رئيس مجلس النواب، أن يلاقي الرجلين هذين في منتصف الطريق، ليثبّت خيار التريّث.

هذا شأن هؤلاء، بل شأن كلّ أطراف الطبقة السياسية الحاليين، وشأن كلّ الأطراف الذين تعاقبوا على السلطة منذ اليوم الأول للاستقلال.

يصطفلوا.

لكن، نحن، لماذا ينبغي لنا أن نتريّث ونُلدَغ؟ من أجل مَن؟ وماذا؟

ولبنان، لماذا يجب أن يتريّث، أكثر مما تريّث؟

أيجب أن يظلّ هذا اللبنان يُلدَغ إلى الأبد، بسمّ هذه الطبقة السياسية؟!

لقد علّمتنا التجارب، تجارب التريّث، منذ 74 عاماً، أن لبنان الموقوف والمتريّث هذا، أصبح من فرط التريّث، وعلى أيدي الساسة المتريّثين، جثة لا حياة فيها. بل جثة منتنة.

أصبح لبنان جثةً، بفعل السمّ الذي شرّبوه إياه، لدغةً وراء لدغة، وتريّثاً في إثر تريّث.

وعلّمتنا التجارب هذه، أن كلّ مَن تريّث من اللبنانيين، لم يجنِ إلاّ المرارة والخيبة واليأس.

سؤالي إلى أهل الكرامة الوطنية، وأهل الرفض والتمرد والنزاهة والقيم ودولة القانون، هو هذا: أنتم، لماذا يجب أن تتريّثوا؟

نحن، لماذا يجب أن نتريّث؟

لازم يكون عندكم جواب. جواب غير متريّث. الآن. وفوراً.

akl.awit@annahar.com.lb


اقرأ ايضاً لقد خسرتُ النشيد والمنشدين وخسرتُ الاستقلال والمستقلين!