من يضبط مخالفات البناء وأي دور للبلديات بعد قرار بصبوص الأخير؟ فئة تتسلّح بمالها وأخرى تعتمد على السلاح والنتيجة: "سلام على القانون"

هي المشكلة إياها: انعدام هيبة الدولة وغياب تام للقانون. في كل مرة، تعمّ الفوضى في البناء وفي عدد المخالفات، وتبدأ "مسرحية" ازالتها، ثم سرعان ما تنتهي من دون ان نعرف كيف او من تدخّل فأنهاها.


هي مخالفات البناء، تكاد لا تنحصر في منطقة، وان كان بعض المناطق يتميز "بفلتان الملق"، الا ان عدوى العمران العشوائي والمخالف يتمدّد سريعا في ارجاء لبنان.
عموما، تعتبر المخالفات في الضواحي اكبر من تلك الموجودة في العاصمة، او في المناطق القريبة منها، من دون ان يعني هذا الواقع، انها غائبة تماما. والسؤال، هل ثمة قدرة لدى البلديات على ضبط مخالفات البناء؟
في القانون، البلدية سلطة تنفيذية، لديها صلاحيات وقف كل مخالفة، فلو مارس كل رئيس بلدية صلاحياته، بالقانون، لانتفت المشكلة.
وتشديدا على دور البلديات، اصدر المدير العام لقوى الامن الداخلي بالوكالة العميد ابرهيم بصبوص تعميما يبدأ مفعوله في 25 ايلول الجاري، اشار فيه الى انه لم يعد لقوى الامن الداخلي اي علاقة بقمع مخالفات البناء، لان هذه المهمة منوطة بالبلديات واتحاد البلديات، ويمكنها الاستعانة بالقوى الامنية عند الضرورة.
فكيف يمكن ان تواجه البلديات هذا القرار؟ وهل سيعطيها دفعا للمواجهة اكثر، ام ان عملها سيصطدم بمصالح سياسية وانتخابية وغيرها؟


قوي بسلاحه
شمالاً وجنوباً وبقاعاً، تكثر المخالفات. ومنذ مدة، اشتعلت في البداوي، بسبب قمع مخالفات بناء، وسرعان ما هدأت قليلا، لتعود وتشتعل في اي لحظة، ما دام القانون لا يزال مغيّبا.
رئيس اتحاد بلديات طرابلس – المينا والبداوي نادر الغزال ينطلق من ان “للبداوي دلالة خاصة”، ليحصر المشكلة الاساسية في كلمات ثلاث: “عدم تطبيق القانون”. يخبر”النهار” ان “قمع المخالفات هناك يتعدد، من مخالفة بناء وبسطات وتعدّيات على الارصفة العامة. ودائما نصطدم بالواقع: غياب هيبة الدولة”.
باختصار يقولها الغزال: “سلاح الجيش يكون احيانا بوجه سلاح الميليشيا، وسلاح الشرطي البلدي في وجه سلاح الازعر”. هذه هي المعادلة، ولا يختبئ رئيس البلدية وراء اصبعه بل على العكس، يقول صراحة ان “اصل المشكلة في امتلاك السلاح بيد من يخالف، وفي تآكل هيبة الدولة امام هؤلاء. نعم، ان المشكلة على هذا المستوى، لا اقل. فكيف يمكن ان يواجه شرطي بلدي بمسدسه الصغير، من يحمل في المقابل B7؟”.
يروي الغزال كيف ان “في كل مواجهة لازالة مخالفة بناء نكون كمن ندخل معركة تنتهي بعدد من القتلى”. وحين تسأله من يحمي المخالفين؟ يجيب: “حمايتهم بسلاحهم”.
ومن يؤمن لهم السلاح، الغطاء؟ يقول: “لا اعرف. انما ما اعرفه ان السياسيين باتوا مثل حالتنا”.
بات السلاح ينعكس على كل الاداء: هكذا يقول الغزال، ووفق رئيس الاتحاد فان “المشكلة كبرت منذ العام 2011، حين صدر قانون يجيز اعفاء المتضررين من حرب تموز من رخص البناء. عندها، “فلت الملق” وتحديدا في الجنوب. انما آثار هذا القانون لم تنحصر فقط في المناطق الجنوبية، بل توسعت شمالا. بات كل فرد يقول: لماذا يسمح لغيرنا ما لا يجيز لنا. كان هذا القانون اكبر ضربة لنا ولاستشراء المخالفات”.
عادة تتنوّع مخالفات البناء، ولكن نوعين يعتبران الاكثر شيوعا، الاول بناء من دون رخصة، والثاني التلاعب بالامتار، كأن تحدد الرخصة مثلا البناء بـ400 متر، فينشأ المبنى على 600 متر. وفي الحالين، تعتبر المخالفة تهديدا لسلامة الابنية، وهنا الخطورة الحقيقية.
الان، عادت الامور واستقرّت قليلا على مستوى طرابلس، انما القوي لا يزال مسيطرا بقوته. هكذا يقول الغزال، ويتدارك: “القوي بقوته. الحل يبدأ بتطبيق القانون وبسحب السلاح من الناس”.
انما اذا وقعت مخالفة غدا، فكيف تتحركون كبلدية؟ يجيب الغزال: “نذهب لنواجه، فاذا انكسرت شوكة المخالف، نكون ربحنا. اما اذا كان مدعوما، نطلب من البلدية الانسحاب، لئلا يقع قتيل”.
يبدو رئيس البلدية “واقعيا”. يقول: “اذا خيرّت ما بين ضررين، بالطبع اختار الضرر الاقل، ولا اضحّي بفرد واحد، لانني اعرف ان المشكلة في مكان اخر، واكبر من سلطة بلدية. يا للاسف، انه سرطان يستشري في كل البلد”.
الخطورة في حديث الغزال، حين يقول: “بت اشعر بان السياسي اصبح مثلنا، اي انه لا مرجع لهؤلاء المخالفين، ثمة جهة وسلاح ابعد احيانا من السياسي. وتلك مشكلة كبرى”.


ظرف استثنائي وتسويات
الى هذه الدرجة تعتبر قضية مخالفات البناء كبيرة. والى هذا الحدّ يشعر اللبناني بالفلتان في بلده. واذا كانت موجة المخالفات تخف حينا، فهذا لا يعني انها تنتهي.
بقاعا، يمكن القول، في شكل عام، ان المخالفات غالبا ما تكون تلاعبا على الرخصة، اما بتاريخها أو بمضمونها. انما السبب الاكثر تأثيرا في هذا المجال هو ان لا فرز لعدد كبير من الاراضي، مما يجعل هامش التعدّي واسعا.
عشر مخالفات سجلت في الفاعور (البقاع) منذ اشهر. رئيس اتحاد بلديات شرق البقاع عمر الخطيب يروي لـ”النهار” كيف ان المخالفة الاخيرة في المنطقة وقعت على خلفية حادث دهم قام به الجيش لاعتقال احد المطلوبين، فأدّى الحادث الى سقوط قتيل لا دخل له بالقصة، فما كان من اهل القتيل الا ان بنوا بطريقة مخالفة. هكذا تقع المخالفات، احيانا كثيرة، كردات فعل”.يرى الخطيب ان قرار بصبوص الاخير يضع المسؤولية كاملة على البلديات، انما المشكلة ان “هناك تعديات كثيرة على المشاع، وهذا الامر ليس ابدا من مسؤولية البلديات”.
اذاً، عندما تقع مخالفة الان في المنطقة، كيف تتصرّفون؟ علنا يجيب الخطيب: “نحن نمنع، لكن احيانا لا نستطيع ان نوقفها، وهنا لا بد من التعاون مع القوى الامنية. اذا لم يكن وراء البلديات قوى امنية او دولة، فلا نستطيع ان نفعل شيئا، حتى مع وجود شرطة بلدية”.
ولكن، هذا “العجز” الا يعتبر ان ثمة جهة اقوى من البلديات تشرّع لنفسها المخالفات، وبالتالي تصبح البلدية اسيرة التسويات او المصالح الانتخابية، لكي يضمن رؤساء البلديات لانفسهم الاستمرار في مناصبهم؟ يعلّق الخطيب: “هذا الكلام غير صحيح. لا احد يحمي المخالفين، لا سيما هنا. ربما في الضاحية او في الشمال، تقع تصرفات مماثلة، انما نحن نحاول قدر المستطاع القيام بواجبنا، والدليل اننا نطلب الكثير من المستندات قبل البدء بانشاء البيت. مثلا، نشدد على مستند ابراز الحدود وعلى موافقة الشركاء او الجيران، منعا لاي خلافات. انما يا للاسف، المخالفات تستمر، ففي خراج تربل مثلا، هناك من عمّر من دون رخصة”.
يختم الخطيب كلامه بعبارة مطمئنة: "في الاجمال، الوضع مضبوط في البقاع"، لكن سرعان ما يتدارك: "احيانا، هناك ظرف استثنائي ينبغي تحمله".
هذا الظرف الاستثنائي غالبا ما يؤدي الى تسويات. والتسويات عادة لا تعتمد تطبيق القانون، وعدم تطبيق القانون يؤدي الى مخالفة. تلك هي المعادلة الحسابية، حتى لو لم يفصح رؤساء البلديات عنها، لان لهؤلاء مصالحهم الانتخابية، ولا سيما لرؤساء اتحاد البلديات، اذ تصبح الطموحات اكبر.
في عكار، استحدث مكتب من ضمن البلدية لمتابعة شؤون مخالفات البناء. يقول رئيس اتحاد بلديات الجومة – عكار سجيع عطية ان "هناك تفاوتا ما بين بلدة واخرى". هو يعتبر ان ثمة عقبات ثلاثا تؤثر في عدم معالجة المخالفات، "اولا: لا مسح لكل الاراضي، اي ان هناك مشكلة ملكية. اذ ان الدولة غائبة تماما عن بعض البلدات هنا.
ثانيا: هناك تداخل في عدد من العقارات، وثمة مشكلة في المساحة. ثالثا: القانون لا يزال اياه منذ الستينات، وهذه عقبة كبرى". بالتالي، اذا كانت السلطة بعيدة، وامكانات الناس ضئيلة، تصبح البلديات حكما امام "واقع التسويات"، وفق عطية.
انما الا يشكل هذا الواقع تبريرا للخطأ وسماحا بالمخالفة؟ يعلق عطية: "لا بد من قانون جديد يتضمن تسويات بمعنى الحلول الجديدة للعقبات الثلاث القائمة، وهذا الامر فيه ايجابية للجميع، اولا لخزينة الدولة التي تحرم الان اموالا هائلة بسبب هذا الواقع".
ويميّز عطية ما بين التعدي على الملك العام والملك الخاص، ليؤكد ان "البلدية غالبا ما تلجأ الى حلول في ما يتعلق بالملك الخاص، انما المشكلة الكبرى تبقى في الملك العام والتعديات على المشاع".
واذ يشير الى ان "للبلدية سلطة قمع المخالفات، وان قرار بصبوص جاء ليؤكد هذا الامر"، يكشف ان "هناك فئة ميسورة لجأت الى تشييد بناء من دون رخصة، وهذا وضع غير سليم ابدا، وان نسبة هؤلاء تشكل تقريبا 5 في المئة من مجمل التعديات".
هكذا، تتسلّح فئة بمالها لتتلاعب بالقانون، فيما فئة اخرى تعتمد على سلاحها لتحصّن مخالفتها، وفئة ثالثة تفيد من غياب السلطة والقانون، لتشرّع العيب. ثلاثة اشكال تؤدي الى نتيجة واحدة: تكاثر عدد المخالفات وتزايد مفعول انهيار السلطة في لبنان، لتصبح النهاية كارثية. وبالارقام: هي 700 مليار ليرة يمكن ان تدخل إيرادات الدولة، اذا عولجت فقط مخالفات البناء، فماذا عن المخالفات الاخرى التي لا تعد ولا تحصى؟!


manal.chaaya@annahar.com.lb


مسلّم لـ"النهار": التعميم احترم البلديات وعليها القيام بواجبها


اوضح رئيس شعبة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الامن الداخلي المقدم جوزف مسلم في اتصال لـ "النهار": ان "التعميم الاخير الذي صدر عن وزارة الداخلية جاء تطبيقا للقانون الرقم 146 العام 2004، وبالتالي هذا هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي ان تلجأ اليه البلديات في لبنان".
وقال: "التعميم يعطي الحق للبلديات التي تعتبر سلطة تنفيذية، في ضبط المخالفات، لان هذا الامر من صلاحياتها، وبالتالي فان التعميم احترم تلك الصلاحيات".
وشرح ان "قوى الامن الداخلي سبق واخذت هذا الامر على عاتقها، لانه في عدد كبير من البلدات، لم تكن هناك بلديات، فاضطرت وزارة الداخلية لان تتولى المسألة. اما الان، فالوضع اختلف".
وتابع: "علينا الان التفرّغ للامور الامنية الضاغطة، لا سيما تعقب الجرائم والتهديد الامني، ومسألة مخالفات البناء كانت تأخذ الكثير من وقتنا وجهدنا، وباتت عبئا علينا. لذلك، الفترة الضاغطة اليوم لم تعد تسمح لنا بذلك، لا سيما ان الامر هو اولا من صلاحيات البلديات. هذا هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي ان يطبق".
وحين يسأل "الا تتخوف من ان يؤدي الامر الى تساهل من جانب البلديات"، يجيب: "على البلديات ان تقوم بدورها وواجبها، وان تكون جدية في هذه المسألة، والاهم ان تبرهن انها تنجح في ضبط المخالفات، وان تقدم تجربة جيدة، فتكون مقدمة لتطبيق اللامركزية الادارية".