الكيانيّة اللبنانيّة وتجارب التّاريخ

ميشال الشمّاعي

صحيح أنّ لبنان الذي نعيش فيه داخل الـ10452 كلم2، بات اليوم أكثر من بلد الرّسالة حتّى، تلك التي أطلقها القدّيس يوحنّا بولس الثاني في تسعينيّات القرن المنصرم. لبنان الذي حَلُمنا به تحقّق بفعل الإستقلال، لكن لبنان الآباء والأجداد تحقّق بإرساء كيانيّته في نفوس القدّيسين الشّهداء. هذه الكيانيّة التي يسعى إلى تغييرها كلّ من لم يجد نفسه سيّدًا بل مسُودًا فيها. فهل ستتغيّر هذه الكيانيّة اللبنانيّة التي دُفِع ثمنها آلاف السّنين من العرق والتّضحيات والدّموع والدّماء؟ أم أنّ الذين تسلّموا هذا الإرث جديرين به ويستطيعون الحفاظ عليه؟

قامت فلسفة الكيانيّة اللبنانيّة التي أرساها عظماء في لبنان من ميشال شيحا إلى شارل مالك في الزّمن الحديث على التنوّع الذي يمثّل الغنى اللبناني. إلّا أنّ الأفكار التوتاليتاريّة التي ضبطت إيقاع القرن المنصرم ما زالت تدغدغ أحلام يقظة بعض اللبنانيّين. هذه الكيانيّة التي قامت مع البطريرك مار يوحنّا مارون وتجذّرت عبر التّاريخ من صولات وجولات المقاومة اللبنانيّة الحقّة، مرورًا بعاميّة أنطلياس وليس انتهاءً بالذين منعوا مرور طريق القدس من مدينة جونية حتّى الذين يحملون هذا الإرث اليوم.

وجه لبنان يا سادة لن يتغيّر. أتعلمون لماذا؟ لأنّ فاتورة الدّماء التي دفعت لا يستطيع أحدٌ أن يدفع أغلى منها. فالسّماء مزروعة شهداء قدّيسين ليبقى لبنان كما هو. لبنان جبران خليل جبران لن يتغيّر. هذه الكيانيّة التي استُمدّت منها علّة وجود هذا البلد. لن يبقى لبنان مرفوعًا على الصّليب، فالقيامة لا بدّ آتية. مهما حاول أصحاب التّاريخ الخريفيّ في النّضال من اقتناص ربيعات نضالات أزهرت أرزًا في الجبال، وترانيم في السّماء، فهم حتمًا ساقطون ومشاريعهم الفئويّة الضيّقة.

فلسفة لبنان الكيان قائمة على التّعدّديّة وليس العدديّة وعلى احترام الآخر المختلف. ومن يخاف الآخر يعيش كلّ عمره في عقدة الخوف والنّقص. المسيحيّون اللبنانيّون لم يخافوا يومًا على وجودهم في لبنان لأنّ وجوديّة هذا البلد هي من وجوديّتهم فيه وفي الشّرق عامّة. أمّا الذين ما انفكّوا يسعون لتطبيع الفلسفة اللبنانيّة مع أفكارهم التوتاليتاريّة، فهم الذين يعيشون عقدة الخوف من الآخر المختلِف. نحن نعيش أزمة ثقة، والثقة على حدّ قول المفكّر ميشال شيحا تعني الحريّة والتّسامح. فمن لا يقدّر قيمة الحريّة ولا يعرف أن يسامح الآخر على أخطائه ليس جديرًا بهذا الإرث الكيانيّ.

لقد سعى المسيحيّون إلى فهم هواجس كلّ شركائهم في الوطن والوقوف عند مخاوفهم يوم كرّسوا هذا الوفاق في اتّفاق الطّائف. هذا الإتّفاق الذي يسعون إلى نعيه كلّ يوم. قد يكون بحاجة إلى تعديل وتطوير لكنّ الفلسفة اللبنانيّة التي حملها في طيّاته لن تسمح بسقوطه لحساب غلبة فئة على باقي الفئات. وتبقى الدّولة اللبنانيّة بمؤسّساتها الشرعيّة وبسلاحها الشّرعيّ الوحيد، الضّامن الأوّل لهذه الكيانيّة التي تحفظ وجوديّة لبنان.

وكلّ الذين يحلمون بتغيير هذه الكيانيّة، ستسقط كلّ أحلامهم عندما يدركون مدى اقتناع الشّرفاء منهم بعدم صوابيّة أفكارهم ونهجهم التوسّعيّ على حساب الإختلاف. ما لم نفهمه بعد حتّى هذه اللحظة كيفيّة محاربتهم للدّول التي تقوم في المنطقة على الأسس القوميّة العنصريّة، أو حتّى رفضهم لتلك الدّول التي لم تولد بعد، فيعملون على إسقاط الإستفتاء حول قيامها قبل ولادتها. وهم ما انفكّوا في تثبيت نهجهم الفكري من خلال السّيطرة على كلّ لبنان لتطبيعه وجعله كما يحلمون.

كلّها أحلام في اليقظة لن تتحقّق لأنّ الذين استلموا المشعل أبقوه مشتعلا ولم ينطفئ بعد. والأيّام القليلة القادمة ستثبت صوابيّة خيارات الكيانيّة اللبنانيّة حيث ستسقط كلّ مشاريعهم تحت أقواس مدينة بيروت أمّ الشّرائع. فهل من يتّعظ من التّاريخ ومن المسيرة التي سلكتها هذه الكيانيّة لتحقّق وجوديّة لبنان؟ أم أنّ البعض ما زال مصمّمًا على استعادة تجارب الماضي؟