سوء مزاج لبناني فما خطب الطليعيين؟

أنطوان الخوري طوق

يعاني اللبنانيون عموماً من سوء مزاج سوداوي. فمن يرافق اللبناني في يومياته يدرك جيّداً أسباب المزاج السيئ والاكتئاب، إضافة الى الإحساس العميق بالهزيمة والاحباط الذي يعبّر عن نفسه إما بالانكفاء والتهميش الإرادي وإما بالهروب الى الخارج. 

فاللبناني المكتوي بنار الفواتير وبهموم الكهرباء والماء وعجقة السير والضرائب والغلاء وارتفاع الأقساط والبطالة ومزاحمة اليد العاملة الأجنبية، والرازح تحت أثقال الهدر والفساد والرشاوى والصفقات المشبوهة، العلنيّ منها والخفيّ، وكساد المواسم الزراعيّة والسياحية والحدود السائبة والسلاح المتفلّت، والمتفرج على الأحزاب والجماعات الطائفية وهي تسطو على مفاصل الدولة والتعيينات والتشكيلات والنقابات...، هذا اللبناني يتملكه اقتناع بأنه متروك لأقداره بحيث بات فاقد الثقة بمن انتدبوا أنفسهم لرعاية شؤونه الحياتية والوطنية، كما بات يائساً من إصلاحهم أو استبدالهم، فهم يختلفون ويتنازعون على المنابر والشاشات والميكروفونات لكنهم سرعان ما يتضامنون ويتفقون عندما يلوح في الأفق اي مطلب محق أو أي حركة اعتراض جادة، أو عندما يسنّون القوانين للإمساك برقاب مواطنيهم. وهو لذلك، لم يعد مطمئناً إلى غده، لذا يدفع بأولاده إلى الخارج نتيجة الخوف من تداعيات أي حدث في الداخل أو في الجوار، ونتيجة اقتناعه بأن الذين يديرون شؤونه يفتقرون إلى التبصر والحكمة والتعلم من دروس الماضي.

فاللبناني مكتئب وسيئ المزاج. الوجوه السياسية هي نفسها تتكرر منذ عقود كتفاعيل البحر الطويل؛ وجوه تعتقد أنها صالحة لكل الأزمنة ولكل أنواع الأزمات، بالإضافة إلى اللغو الكلامي والخفة السياسية مهما استفحلت الأخطار.

كيف للبناني ألّا يكتئب وهو يدرك أن بلاده لا تشكو من قلّة الطاقات والكفاءات في شتّى المجالات، لكنها جميعها مهمشة أو مهاجرة لأنها لا تتقن فنون الاستتباع والتصفيق لأصحاب السلطان العابرين لكل المراحل.

اللبناني محبط، اذ يجد نفسه سجين الشاشات التي تتكرر عبرها الوجوه نفسها، تعلّق على الأحداث من دون أن تتقن فنون الحوار واللقاء مع الآخر المختلف. فالحوار على الشاشات هو حوار متاريس لتبادل الفضائح والمواقف الجاهزة والمشاعر الجاهزة. وجوه متجهمة وأصوات مرتفعة حيث لا سخرية ولا فكاهة ولا دعابة، وغالباً ما تنتهي الحلقات "الحواريّة" بتوتر وسوء مزاج بدل توسيع المساحات المشتركة.

كيف لا يكتئب سجين الشاشات حيث نشرات الأخبار تلاحق السياسيين في تصريحاتهم البليدة وافتعالهم للمناسبات، وتشاطرهم في لعب دور المعارضة وهم يتذوقون حلاوة السلطة؟

كيف لا يكتئب والكاميرات تتسابق لالتقاط صور الأشلاء وبقع الدماء ومشاهد الثكالى وهنّ يبكين أحبتهن؟

كيف لا يسوء مزاجه عندما يجد من انتدبوا أنفسهم لرعاية شؤونه يتقاذفون موضوع النازحين كصندوق بريد لتوجيه رسائل سياية وانتخابية ولـ"التمريك" بعضهم على بعض، مستعيدين الحقبة الفلسطينية عام 48؟

كيف للبناني ألّا يحبط وهو يرى سياسييه ينبشون قبور الموتى ساعة يشاؤون ويبرعون في نكء الجراح الماضية لمصالح آنية ولنزوات عابرة؟

كيف له أن يطمئن ولا يعرف متى يكون الحليف خصماً، ومتى يكون الخصم حليفاً في مواسم تبويس اللحى والكراهية المضمرة؟

اللبناني يكفر بالسياسة ويؤثر الانسحاب من مهازلها. تكفي تغريدة واحدة، أو تصريح واحد لمسؤول اقليمي، لضعضعة الحياة السياسية ولصعود رهانات وسقوط أخرى.

اللبناني متروك، اذ كيف لرجل مثل غسان سلامه ألا يثير أي حماسة رسمية لخوض انتخابات منظمة الاونيسكو به؟

وكيف لا يسوء مزاجه عندما يُمنع مخرج سينمائي مثل زياد دويري - مهما تكن الآراء في أعماله السينمائية - من دخول صرح علمي أكاديمي عريق، في رفض مؤذ لأي نقاش أو حوار، وفي ظلّ ردود فعل باهتة وخجولة؟

اللبناني سيئ المزاج لأن الوجوه الجديدة هي طبعات معدلة عن القديمة، ولأنه يسمع الفاسدين يتحدثون عن الشفافية، والمستبدين والإلغائيين عن الحرية والديموقراطية، والمستتبعين عن الكرامة الوطنية، وأكلة اللحوم عن العدالة الاجتماعية، والطائفيين عن العيش المشترك، والموتورين عن السلم الأهلي.

فاذا كان اللبناني يعاني من سوء المزاج، فما خطب المتمردين الطليعيين المتنوّرين المدنيين العلمانيين الثالثين العابرين الطوائف والأحزاب والتكتلات والمناطق، المتردّدين، المبعثرين، المشرذمين، والمنكفئين طوعاً، أو قسراً، أو يأساً، أو تخاذلاً، أو قلة استشراف؟

ما خطب هؤلاء؟!

وحدهم معنيون بتقديم اقتراحات أجوبة استشرافية بالمعنى الوطني – السياسي - الثقافي – المجتمعي عن سؤال المصير. فما خطب هؤلاء؟!