ليلة مُريدٍ في مقام الجسد... هم الذين يكسرون جمودَ الشموع، ويبعثرون حُقَقَ البخور

نجم الدين خلف الله

في تلك الليلة الشاتية، علِقها المريدُ في ألمٍ، ولكنها نفرت في شرودٍ. لمح الدنيا في بسمتها، حين أشعلت من أُوارِها سناءً...وألهبت شكوكًا. في ساعات الغسق الأولى، افتتن ضميرُهعن حِـــبِّهِ، حين انهالت عليه نبراتُ صوتهاتلاحقه كالأثير، حينها هاجر بالنجوى إلى خرائِط الجسد الناعم وتضاريسه الحالمة. لامست يداه أطياف فستانها الزاهي، فقذفت به في رهبة الأسرار. وحين تملَّى، في ساعات البراءة تلك، ملامح وجهها، انهار في وجدانه طهرُ الوصال، وصار سوادًا ما كابده قِدْمًا من سُبُحات الاقتراب. عــلَّــق في جيدها البَضِّ حكاياتِ طفولته، وظلال حِرمانه، غِرًّا في غابات الزيتون الخضراء، وراح يبحث بين سيماها اللذيذة عن الأغصان الخصيبة، وحبَّاتها الرطيبة.  

كانت كلما تكلمت، في آن اتصفائها، رمته من شاهقٍ إلى صخب مدينتها، واستشْراء غِوايتِها.ما أفظع الساسة الذين يرقصون على ركح الشرقِ الأوسط. تابع لثوانٍ خالدة أثيرَ أنفاسها الحارقة، فقذفت به إلى تخوم الجسد النائية وأصقاعه الرحيبة. وجهًا لوجهٍ أمام رطوبة العناصر: ترابٌ ونار، ولا ماء. تمالك نفسه لحظاتٍ، وحاول أن يؤوب إلى موطنِهِ حانيًا، ولكنها ما لبثت أن أعادَتْه إليها حائرًا جريحًا.

انفردا تلك العشيّة في حانة الفندق، بعد أن آلمه انكسارٌ في نظرتها، وذلةٌ انسابت مع عبراتٍ خضَبت وجناتِها، فإذا بها تكسر خشوع وحدتِه، وتسيح به في ربوعِ أسئلته. حدثته عن الحرب الأهلية، ومستقبل الشرق، وآلام الولادة. وانطلقت به إلى مضائق الشعر، وقَهر الموت الذي يختطف أعزّ الناس عليها، ولا تتمكن من الحضور ساعة الوداع.

صمودٌ يرتجيه في صدره ولا يَجده. وبين أضلعه، تنازعت نغماتُ الغيب تدفعُ هوسَ قطاراتِ الأنفاق، التي تسري في العتمة. كان الإطلاق قد فتحله أبوابَ  رحابته، فإذا بها تجذبه، بضحكاتها المَرِحة إلى مراح وجنتَيْها، فيَهيم ضالاً في بياضهما المُشرب بحمرة قانيةٍ. لم يُفق من سكرته إلا وقد أثخنت جراحُ التطواف جوانِحَه، وغادرته بعد أن زجَّت به في شَهْدِ رُضابها. يا لَمرارة البعاد عن حِبِّه العالي! وحين أراد أن يتيه من جديدٍ في الفناء، جذبته بأناقتها الفاخرة وعِطرها الأخَّاذ، فألقت به صريعًا في دوامة الشكوك وحرقتها، وآلام السؤال ووجعه: سؤال الذاكرة وتراث الأقدمين. يلوِّح الصمود بمنديله الأبيض ويغيب، وتعده هي بفتوة النشامى: هم الذين يكسرون جمودَ الشموع، ويبعثرون حُقَقَ البخور.

تخوَّف على أقداسه الغائرةفي أحضانِ حِبِّه الذي بات يتناءى عنه،بمرور كل لحظة من لحظات تلك الليلة الشاتية. وظلَّ صوتها سياجًا يحجب عنه سِرَّه الداني، وأوهمته أن عوالمه، دوننبرتها، ستصير مُوحِشة. من آفاقٍ فتحتها، تولَّدت لديه سَوْرة الحياة تسقي حنايا أشواقه، وتفيض نشوةً على ضِفاف الملل. تنهدت في حرقةٍ. وحكت عن تنازع الأضداد في تلك الحرب التي طحنت أهلها، ومزقت بلدها وقسمت خريطته نِصفيْن: شرقي وغربي.

أراد العودة إلى بهائه، إذ كان من قبلُيطوف في ملكوت النقاء،وها هي بأنوثتها تردُّه إلى أحياء عاصمتها، تعوي بها الكلاب الشاردة، ويلعب العجائز بقطع النرد الحجرية. أخبرها أنه جاء من حيِّ القداسة ورِواق الصفاء، فأجابته بذكرى سنوات الحربتنهش أزقتها، وناشدته أن يصيخ إلى أزيز الرصاص،يخترق ليلتهما الواجفة، بعد أن لعلع، في أنحاء الأحياء، بين الطوائف المتناحرة. اختلس حينًا نظراتٍ في آثار الحَرْق،على ذراعِها اليُمنى، نُدَبًا خفيفةً من مكر الشظايا الضائعة، تُخفيه هي في أناقة الجادَّات وتصاميم عمرانها.

بعد منتصف الليل، أراد أن يفرَّ إلى دعة الإطلاق ويخلص من قيود بشرتها، فشدَّته بشموخ صَدْرها، فتنةً عاتيةً وصرخةً قانية، آناء سهرة المجهول، قابعيْن معًا على أريكة الردهة، على ضوء فانوس خافتٍ. وبآهاتها، أنزلته من صفاء التجلي إلى لَوثة الأزقة الصاخبة، والعابرون، بأجسادهم القوية، تتصايحُ القلادات الذهبية على صدورهم، وتسترسل اللِحى كثةً، ووشمُ حياتٍ تسعى على زنودهم.

مرت دقائق الظلام بطيئةً، فإذا بعذوبة شفاهها تطيحُ بإرادته التسامي وتهوي به في مكانٍ سحيق. وكلما أراد أن يغرِّد طليقًا على دوحة التجلي،اقتنصته بسَوْرة أنوثتها، فطغت في جوانحه راقصةً، تَحول دونَهُ والتخلي، وتعيده رِياضُ لَماها إلى نقطة الانتشاء، رغم زحمة الحانة التي اتَّخذا فيها ركنا قصيًا، تحت أضواء الفانوس الذاوية.

حدثته عن شواطئ مدينتِها، حين تنزع الشمس فيها إلى الغروب حانيةً، وعن دروب صِباها في ضياع الرياحين، وسمرٍ ممتعٍ في خضرة الحقول، ثمَّ حُرقة فراقٍ، عَذَّبها طيلة سنوات غُربتها، لغيابها القسري لحظة الارتحال "فما مدت يَديْها لوداع المرتحل". وعادت بأحاديث صباها تعانق أنفاس المارة، وتستمرئ ضجيجهم، وتستعيد ازدهاء ألوانهم تحت أضواء الشارع المكتظ: كأنما تلاقي أهل أبيها المرتحل.  

قارب الصبح على الانبلاج، وظلَّ هو يصارع في هواها طفولتَه الدافئة، وذكرى فوانيس تتدلى من القِباب الخشبية. صارعإلى أن هوى به عشقها في وحشة السؤال، ففارق مقامَ الإرادة، وفازَ بشرف الطَّلب. بدت أشعة الشمس الأولى تغازل حُجب الغيوم، وتغشى ضفاف الدانوب والفندق المطلَّ عليه. عاد كلُّ واحدٍ منهما إلى غرفته منفردًا.